"قصائد العمى" للشاعرة التونسية لمياء المقدم.. حين يختلط الشعر بالحواس

"قصائد العمى" للشاعرة التونسية لمياء المقدم.. حين يختلط الشعر بالحواس

تصنع الشاعرة التونسية لمياء المقدم، مشاهد شعرية من خلال تأطير الحواس، ومنحها الحركة اللازمة لتفسير العالم، وفرز تفاصيله، عبر مجموعتها الشعرية" قصائد العمى" الصادرة عن منشورات المتوسط 2023.

وفي المجموعة الشعرية، تبدو الحركة الرتيبة للأشياء في اليوميات العادية، مثار تأمل كأنما ماء بارد في طقس شتوي، لكن الشاعرة تصنع مفارقة بين حركة المرأة في منزلها عبر اليوميات، وحركة اللغة في حياة الإنسان، وكأن المرء دونها يفقد داخله، إذ إن العمق يتحرك تبعًا لحركة اللغة، وأثرها على الحواس الإنسانية.

تشير لمياء المقدم إلى عنصر الحركة في النص من خلال ركبتي الإنسان اللتين كما ترى، يندر تناولهما في الشعر، وكأنهما هامش، أو حمل زائد، لكنها تضعهما تحت منظار الشعر، كاشفة عن بعد حركي للنص والجسد، يسيران معًا، برفقة اللغة.

حركة

لربما يعيش المرء دون أن يرى، لكنه لا يستمر دون أن يتحرك، وفي شعر لمياء المقدم، تبدو الحركة أساس في تبرير وجود الشعر. فحتى القصيدة تقوم على الحركة والتنقل، وكأنما نسمع إيقاع الماشي داخل النص، الباحث عن الهوية، وإشكالية الوجود في هذا العالم.

وتشير المقدم إلى عنصر الحركة في النص من خلال ركبتي الإنسان اللتين كما ترى، يندر تناولهما في الشعر، وكأنهما هامش، أو حمل زائد، لكنها تضعهما تحت منظار الشعر، كاشفة عن بعد حركي للنص والجسد، يسيران معًا، برفقة اللغة، ومن خلال هذه الحركة المركّبة، يتحقق الوعي بالتجريب والتأمل، فالنص يجعل من الحركة أكثر وقعًا، بالمشي والسقوط والعرج والتعثر، كلها مشاهد لا تكف عن مشاكسة الجسد واللغة والذهن، في آن واحد.

وتكتب الشاعرة "الركبتان تجاوزهما الشعر ظنًّا منه أنهما لا تصلحان للتغني كالعينين والنهدين والوجنتين والردفين، لكن انظري سيدتي لهذا النص، أرجوك انظري. ألا تجدين أنه يستقيم ويعرج، يركض ويسقط، ينحني ويتعثر ويستبق؟ أليس هذا النص في حد ذاته ركبتين؟ لقد اكتشفت أهمية الركبتين مصادفة بعد حادثة وقعت لأبي كسر فيها عظام حوضه وكان آخر أهدافه في الحياة أن يمشي إلى الحمام.

انتهى كتاب الجسد وهذه نصوص العمى، لماذا تخلطين الكتب ببعضها والواقع بالشعر؟

لأنني مددت يدي إلى الفراغ فأمسك بها

ووضعت قدمي على أول الطريق فأخذني إلى قلبه، وبحثت بين الرفوف عن كتاب فتعثرت بألف كتاب.

لن أعمى مهما عميت".

أخبار ذات صلة
ملتقى الرواية العربية في تونس يناقش "الحواس في السرد العربي"

يوميات

ولعل الغوص في تفاصيل الطعام وتناول أشكاله، ومقاربتها مع المعنى في الحياة، هي أسلوب قصيدة النثر ما بعد الحداثية، التي تحيك القطع الصغيرة المهملة، وتقدمها للعالم السريع في ثوب قابل للاقتناء.

وكأن مهمة الشعر شد العالم من كتفه، بهدف الإبطاء ونخزه بهدف التروي والتأمل، فالسرعة عكس الشاعرية، والمشهد في ظل سرعة الحياة المعاصرة، يبدو مغبشا، مشوّشا، وهذا عكس إرادة الشعر.

فمن خلال الجزئيات الصغيرة وقطع الفواكه والخضراوات، تشير الشاعرة إلى سقوط الإنسان في فخ الوحدة، لأن المعظم من حوله لا يكترث لحجم هذه التفاصيل وعمقها، معبرة عن هذا الأثر من خلال النفي وإثبات الرؤية لفاجعة وحدة الإنسان: "أحدثكم عن عشائي البسيط ليس لأقول إنني وحيدة ومهملة، إن الملح يتحول أحيانًا إلى رمل مؤلم تحت الأسنان، بل فقط لأقول إنني أرى…".

ركض

فيما يكون للركض صوت أكثر حدة داخل نصوص المقدم، في إشارة إلى تسارع العالم وملاحقته لفهم معناه، أو الاستمرار فيه، وتمكننا لفظة الركض من سماع صوت اللهاث والوجع، ولربما عدم الاكتراث للكثير من المشاهد، فيتحول الخيال لمشهد سينمائي يصور قطارا سريعا: "أحببت المشي من أجل الجسد، وأحببت الركض من أجل المخيلة التي أنجبته".

شهقة

لمياء المقدم التي تربط الحواس كأنها أضلع لشكل هندسي، تبحث عن تجريب فلسفي للرؤية والسمع والتجريب فيما بينهما، "أذن لا تسمع ستكون المنفذ الأول للظلمة".

لكن ماذا يسمع الإنسان في هذا العالم الممتلئ بالكوارث، ماذا بإمكانه أن يرى؟ لربما تفكيك الحواس عن بعضها يخفف من وطأة الشعور بالخيبة، لربما يتحلل الشكل الهندسي للوجع، وتكون الضبابية، الطريق الأمثل للعبور، هذا الصوت في النص يفتح على أسئلة كبيرة حول الوجود، إذ تُعبر الشاعرة عن شهقة الإنسان، وخيبته، بجملة الشاعر الأمريكي راسل إدسون: "جميعنا نولد مصابين بالغثيان"، وفي مكان آخر تدلل على صوت الحياة البذيء، بالقول: " الحياة قاسية، لن تصبح شعرًا أبدًا، والأذن لن ترى".

عين

إن العين في قصائد لمياء المقدم، متحركة لا تتوقف عن مطاردة الأشياء، متجذرة في المعنى، تأخذ مقاسات الأشياء، لتصنع منها أشكالًا أخرى، لملامسة الحقيقة في عالم دائم الحركة والدوران. تكتب الشاعرة: "ثبات العيون موت" ولربما حركتها أيضًا كذلك، فلا يتوقف العالم عن تكويم الردم داخل العيون.

كما إن اليد عند المقدم تعمل كاللغة، تلامس الأشياء فتصنعها، تتحرك فيتغير المشهد، وكأنما العالم يدور بين عشرة أصابع وكفين ممتلئتين بخطوط شكلتهم قسوة الحياة.

وتكتب المقدم "التعرف على الأيدي لعبة مسلية، مع الوقت صار بإمكاني أن أفرّق بين يد من جاء لأجل الحب، ومن جاء ليسرق، وبين أيدي الأصدقاء وساعي البريد، وعمال المطافئ".

عطب

فيما تذهب المقدم إلى مشهدية أكثر صراخًا، عبر العطب، فالإنسان بكامل أدوات الجسد، يستجدي الشفقة، فماذا لو كان الفقد، الذي يبدأ من القطع الصغيرة ويكبر تدريجيًّا، ليشمل العالم كله.

هنا السؤال الشعري يبدو أكثر وطأة من تكرار المشهد ألف مرة، فلا يجب أن يكون السؤال: أين تذهب قطعة الجسد التي نفقدها؟ بل من أين نأتي بشفقة أخرى هذه المرة؟

وتكتب المقدم "عندما فقدت عينا واصلت البكاء بعين واحدة. البكاء بعين واحدة يدعو إلى الضحك أكثر مما يدعو إلى الشفقة. ثم من يشفق على الآخر: العين التي تبكي أم العين التي تتفرج؟".

صندوق

وعبر شكل الصندوق الشعري، وطريقة النثر، مع الحفاظ على قوام كثيف للغة، ومن خلال مفردات ليست غريبة، أو معقدة، تبدو قصيدة لمياء المقدم أكثر قابلية للاستمرار في عالم يحرك الأشياء من أماكنها دون تأمل متعمق..

وهنا يبدو الشعر في شكله الأجمل عبر الصور الذكية المُلهمة، صور تتحرك بثمانية مجسات، مثل أنثى الأخطبوط، تدمج الألم بالمتعة والجمال، لكن دون أن تأكل نفسها، واستمرت هذه الصور في صناعة الجمال عبر 64 صفحة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com