في مجموعة "بيت بيوت" للشاعرة هبة بعيرات.. صور ديستوبية للإنسان والعالم
في مجموعة "بيت بيوت" للشاعرة هبة بعيرات.. صور ديستوبية للإنسان والعالمفي مجموعة "بيت بيوت" للشاعرة هبة بعيرات.. صور ديستوبية للإنسان والعالم

في مجموعة "بيت بيوت" للشاعرة هبة بعيرات.. صور ديستوبية للإنسان والعالم

تستعرض الشاعرة الفلسطينية هبة بعيرات، صورًا ديستوبية، تجسد سلوك الإنسان في العالم، وذلك من خلال أسلوبية شاعرية ناقدة، تمس مفاهيمًا مختلفة وأحداثًا متكررة، على طول طريق الإنسان، في مجموعتها الشعرية "بيت بيوت" الصادرة عن مؤسسة عبد المحسن القطان، والدار الأهلية للنشر والتوزيع2021، والحائزة على إشادة وتوصية بالنشر، من قبل لجنة تحكيم مسابقة الكاتب الشاب للعام 2019، لمؤسسة القطان.

وتقدم المجموعة صورة واقعية لمجريات الزمان، واصفة حال الإنسان المتورط مع القلق من المستقبل، وتجاربه مع الخيبة، وألم الذكرى المُشَرّك. وتتحدث المجموعة عن الخذلان من الآخرين، وسوداوية مآل الحدث الواقعي. كما وتعرّي زيف العلاقات البشرية، وتُلقي الأقنعة المرتداة من الإنسان أرضًا.
ولطالما رصدت القصائد إشكالية المرء مع الفراغ الثقيل؛ الفراغ الذي لا يمكن الشعور فيه بالألفة مع العالم. فيما تُضمّن الشاعرة، فلسفة خاصة، في طرحها الخاص عن الحب، في ختام المجموعة: "نمر أنفسنا/ في وجوه الآخرين/ وننتبه/ لهذا نقع في الحب/ من النظرة الأولى".

سخرية

وتقدم الشاعرة -أيضًا- مجازات ساخرة من الواقع، بطرق تلميحية ذكية، تقوم على حرفة التقاط المشهد، والمهارة في الصياغة والتقديم، إذْ تختلط اللغة بالصورة، بسلاسة، ما ينفي عن النص صفة التعقيد، ويسهم في تقريب رؤى الشعر المتنوعة. فيما تعمل الصورة في النص، على خدش المفاهيم بعموميتها، دون تأطير أو حدود، محققة أحد أهم صفات الشعر، ألا وهي التحرر من الرقابة الذاتية، والاجتماعية في آن واحد.

فلاش

أما الأساليب الشعرية في المجموعة، فإنها تحمل السخرية من الواقع بطريقة التلميح والغمز، من خلال اللغة، فينقلنا المعنى إلى طرقات لم يقلها الكلام، وإنما أضاء فلاشًا لحظيًا لوجودها في النص، تاركة الخيال الخاص بالمتلقي لتأسيس بقية المشهد.


وتستخدم الشاعرة قوالب مختلفة في الطرح، حيث تفتتح المجموعة بضمير الأنا، منطلقة من ذات المرء الملاصقة، وكأنها أرادت بنصوصها الأولى أن تقول، هذه ذاتي ورؤيتي للعالم.

وفي نصوص تابعة، خاطبت الشاعرة الجمع، واستخدمت ضمير الغائب جمعًا ومفردًا، في تشكيل بنية المشاهد، لتوسيع مساحة العاطفة المحمولة بين كفي النص، وتعميمها.

في حين تتسم الصورة لدى الشاعرة بالجرأة، والتجريب في مدارات خارج المألوف، من حيث التابوه الاجتماعي السائد، فتلتقط "عينها الشاعرة" المشاهد المغبشة، المغطاة بالغبار، لتكشف عن المعنى المُخبأ داخلها.

أما بنية النصوص، فحملت شكل قصيدة النثر الحداثية، وشهدت تنوعًا في أطوالها، ما بين القصيدة متوسطة الطول، والقصيرة، والومضة الشعرية المكثفة. وامتدت هذه النصوص على مدار 125 صفحة من القطع المتوسط.

رفض الإنسان أخيرًا

وتلمح الشاعرة إلى القسوة التي تطغى على الإنسان في فهمه وتشكيله للعالم، فكأنها تريد القول: إنه لا تأتينا الأذية من الطبيعة، ولا من النجوم، وإنما من السلوك الإنساني الدائم في التبدل، الذي يضيف صورًا أخرى لبشاعة الحياة، وعدم جدوانيتها. وتلمح بعيرات إلى أن الطبيعة قد ترفض الإنسان أخيرًا، من خلال إهماله، ونبذه خارج العالم.

ففي نص "سالومي" تكتب الشاعرة:

"لن يقطع أصابعنا أحد،
نحن الذين خمشنا وجوهنا
بقهر،
ورحنا نلوك أضلاعنا،
بلا شفقة،
وقصمنا ظهورنا بجبال الآخرين،
سنعيش جيلا آخر،
لن يعوزنا الكلام،
ستقوم مقام نوافذنا
عناكب مائية،
وستحل سراخس مكان الدور،
سيبتلع العالم نقيق متواصل،
وقد نموت بقصور في الكلى،
لكننا سنطفو ثانية،
بلا سبب واضح،
كزنبق أبيض عملاق،
على وجه هذا الوحل الحزين،
سيكون وقتها للعالم وجه آخر،
وجه لا يفكر باصطيادنا".

لذة الشعر

ويمكن القول، إن الصبغة الناقدة التي حملها الكتاب، سارت إلى جانب الحس الفني المرافق للنص، فكما ظهرت الفكرة المُخلّقة، والمشاعر المشبعة بالألم والحزن والاعتراض، فإن النصوص لم تخلُ من حس التلذذ بالشعر؛ إيقاعًا، وصورة، وكثافة، وموسيقى. فكان الحوار الفكري الإشكالي، الممتلئ بالأسئلة، يسيطر على الكادر الشعري المتقافز بين النصوص، أحيانًا، لكن القيمة الفنية لم تغب عن النص، كما في توصيف السقوط عبر نص"شيخوخة":

"وأصحابا أعرتهم سقوطي،
فأعادوه إلي واقفا على قدمين،
رغم رجائي أن يحافظوا عليه كما أخذوه،
ًمكسورا من الأطراف،
وماء الذين أحبهم يسيل،
فينزلق قلبي وينكسر،
وماء قلبي يجف،
فينبت الذين أحبهم في شقوق الآخرين".

البؤرة والتفريعات

فيما تنوعت الثيمات البنائية الداخلية للنصوص عند بعيرات، إذْ لجأت إلى قصيدة "البؤرة" كما في قصيدة ضجيج، حيث تكررت جملة أفتح نافذة عدة مرات، كجملة مفتاحية للمعنى التالي.

وثيمة أخرى اشتغلت عليها الشاعرة، فظهرت قصيدة التفرعات في نص"صلات" إذْ يتفرع المعنى ويتجدد من خلال كلمة "الجسور" فعملت الكلمة كأنها ساق، تتفرع منه زهور مختلفة للمعنى.
تقول الشاعرة:
"هذه الأرض المليئة بالجسور
جسور تفضي إلى جسور
حيث يرقص الجميع
وينامون
ويلقون موتاهم إلى الأسفل
إلى الضباب الكثيف،
هذه الأرضلا تصل إلى مكان".

أنطولوجيا

وتعطي الشاعرة في قصيدة "يعرفون" بعدًا أنطولوجيًا فلسفيًا للبكاء، حيث تعود إلى اللحظة الصفرية مع الحياة، وقت أن تلقّى الإنسان اللسعة الأولى على مؤخرته، فكان البكاء يمثل بداية وخاتمة في الحركة نفسها، بداية بصفتها لحظة أولى مع الضوء، وخاتمة تنم عن فهم السيناريو الذي يقحم إليه الطفل، ليشارك في دوره، كما تصف الشاعرة ذلك. لذلك، يبادر الطفل بالبكاء.
تقول الشاعرة:

"الأطفال الذين أقحموا في المشاهد
ليضفوا عليه صفة الملهاة
الأطفال الذين
ركبَت لهم أجنحة من بلاستيك
ُوصبغت وجوههم بالبياض
ُولقنوا النشيد،
كانوا يعرفون كل شيء
لذلك حين وقفوا أمامنا
بكوا".

نص آخر، بعنوان "تغيير":

"الحدود التي ذهبت
غير الحدود التي جاءت
الحدود الممتدة من الحدود
ليست فرعا من أصل
ولا عكس ذلك.
الذين عبروا البارحة
قالوا غير قول الذي عبروا اليوم صباحا
الذين عبروا صباحا
ليسوا هم الذين وصلوا الآن
لا شيء ذاته تدخله مرتين
سوى الحزن الذي تركته وراءك".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com