"جسد في ظل" للمصري عبد النبي فرج.. عالم سحري مثقل بالديستوبيا
"جسد في ظل" للمصري عبد النبي فرج.. عالم سحري مثقل بالديستوبيا"جسد في ظل" للمصري عبد النبي فرج.. عالم سحري مثقل بالديستوبيا

"جسد في ظل" للمصري عبد النبي فرج.. عالم سحري مثقل بالديستوبيا

في المجموعة القصصية "جسد في ظل" الصادرة حديثا للكاتب المصري "عبد النبي فرج"، يتصارع نمطان أسلوبيان: الأول قائم على اللغة الشعرية وبلاغة المفردة، والثاني بناء صلب بلغة خشنة جافة.

ونلمح اللغة الشعرية في المَواطن الدافئة الحميمية وفي حالة الحلم، لتتحول التعابير إلى حامل لهم إنساني روحاني، أو في حالات التعبير عن مواضيع الخراب والقهر.

ويعبر الكاتب من خلالها عن واقع مشوه يعتريه انهيار القيم، وتتخلله الأسطورة لتبدو ماثلة بقوة منخلعة عن تراتبية الحكي والبناء المحكم والشخصية المركزية والزمن المحدد، في استسلام طوعي للبناء الفضفاض الهش.

أما في النمط الآخر فيتجسد البناء الصلب الواثق بوضوح بتعابيره الجادة الدالة، حيث التقشف حد العري، والحوار الشفاف القريب من اللهجة المحكية الملامسة للهم اليومي للمواطن المقهور.

وتدور غالبية قصص المجموعة في القرية بمفهومها المطلق، ليتحول الريف بميراثه القائم على قرون من القمع والإهمال والجهل إلى حمل ثقيل يرزح على متون القصص، ويصبح لاعبا محوريا في تغيير مسار الأحداث عوضا عن مهمته البسيطة كمؤطر للأحداث ومجرد خلفية هادئة لها.

في قصص "فرج" عوالم متروكة ومناطق فقيرة موبوءة بالخنوع، الفرد فيها فاقد لثقته بذاته، عاجز حد الاستسلام القدري أمام آلة القهر الجبارة المخيفة.



وأبطال القصص بعيدون عن مفهوم البطولة الذي درج عليه الأدب المعاصر، فهم ذليلون مغتربون غير قادرين على حمل أعباء استحقاقاتهم.

وأمام عجز الفرد وتحكم القوى المحيطة بمصيره، يتحول إلى مسخ لا يجد أمامه فرصة لتحقيق ذاته، إلا من خلال الجسد؛ الواقع الملموس الذي يعرفه ويسيطر عليه، سواء أكانت امرأة أم رجلا.

ويصبح الجسد أداة للصراع وساحة للعنف الرمزي والمادي، لنلمح بشرا بأهواء شريرة وملامح غير بشرية، كائنات عنكبوتيه ديدنها التحكم بالآخر.

 

قهر مزدوج

عالم "عبد النبي فرج" القصصي سحري ديستوبي مفرط في ماديته، يتصور فيه الرجل أنه مالك لأنثاه، ليمارس عليها -وهو المقهور بدوره من سلطات أعلى- فنونا من القمع والتسلط.

ما يذكرنا برؤية المفكر مصطفى حجازي الذي يقول في متن كتابه "التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور": "كلما كان الرجل أكثر غبنا في مكانته الاجتماعية، مارس قهرا أكبر على المرأة".

ولا تفلت المرأة في قصص فرج من التشوه الاجتماعي، فهي حاملة لعُقد شتى وتراكمات مظلومية تدفعها إلى نخر العلاقة الطبيعية بالرجل/الشريك، لتنظر له على أنه آلة مهمتها تحقيق آمالها العينية والرمزية.

ومع تشوه المفاهيم، تتحول الحياة في أصغر بُنى المجتمع، من سكن ومودة ورحمة، إلى صراع وجودي، نهايته محكومة بالانكسار والموت والانحراف عن جادة الصواب، وصولا إلى ما هو أدهى وأشد وطأة، حيث النهايات الصادمة العنيفة.

 

الأسطورة

ولم يقتصر فرج على البناء الواقعي، إذ أشبع كثيرا من قصصه بالميثولوجيا، متكئا على ميراث مغرق في القدم من الأساطير الشعبية وحكايا العفاريت والغيلان المنتشرة في البيئة الريفية.

وفي القصص نلمح مفاهيم يعرفها جيدا أبناء الريف؛ مثل "أم عشوش" و"ضاربي القبة" و"الجنية" و"المارد"، تخرج من المفترقات المعتمة لقُرًى نائية طفولية.

وفي حديث خاص لـ"إرم نيوز"؛ قال فرج، إن "الأساطير الشعبية كانت تمثل للطفل الذي كنت، واقعا حيا، هناك في الخلفية، إذ رصدت مخاوف وخيالات وكوابيس عشتها".



ويجسد العالم السحري الذي يلف قصص المجموعة، امتدادا لما درج عليه "فرج" في مؤلفاته السابقة، فنجد هذا الإرث -على سبيل المثال- ماثلا في روايته "طفولة ضائعة"؛ عالم غريب مدهش يخرج من واقع محدود إلى خيال باذخ وثراء تخييلي.

ونلاحظ في المجموعة تأثر فرج -أيضا- بآداب عربية وعالمية، تبنت الشخوص الأسطورية والمكان الحامل للحلم الذي يتحول إلى فاعل حقيقي.

وأضاف فرج: "كل قصة في المجموعة كانت مكتوبة في داخلي، حتى النهاية قبل أن أفرغها على الورق، حتى المكان يكون في داخلي أيضا، وأعده خلال فترة طويلة.. وحاولت جهدي أن ابتعد عن الراوي المركزي".

 

سيرورة الضمائر

وتبرز في القصص سيرورة الضمائر وتلونها؛ ما أعطى الأسلوب مرونة أثْرت السرد، وهي لعبة خطيرة، إذ تفضي -إذا لم يتقنها القاص- إلى التباس قد يحيل القارئ إلى التشتت.

ولكن تغير الضمائر لدى "فرج" جاء محكما وخلق حيوية تجاوزت حالة الجمود التي قد يؤدي إليها أسلوب الراوي العليم وحده؛ وهو ما تستحسنه معظم الدراسات النقدية لما بعد الحداثة.

وأوضح فرج، في حديثه لـ"إرم نيوز": "الضمير الصلب الذي نقوم بسرد كل شيء من خلاله، مهيمن وفاشي بطبيعته؛ لأنه يكشف عن جزء من المشهد فقط بطريقة محددة، وهو إذ يناسب كتابا آخرين نجحوا فيه، فهو قطعا لا يناسبني؛ أنا ابن التعدد والموسيقى التراثية وموسيقى الجاز والأغاني الشعبية الفطرية، لا أكتب لنخبة رفيعة، أنا أكتب للجميع".

 

من أجواء المجموعة

يقول الكاتب في إحدى قصصه: "تركني وفتح سحارة بجوار الحائط وأخرج منها نايا قديما وجلس جواري وأخذ ينفخ فيه، وصوت الناي يخرج خافتا ومرتجفا. لم يكن نافخا محترفا ورغم ذلك بلغ تأثير صوت الناي عليَّ كما لم يبلغه أي عازف محترف، كنت أرتجف من قسوة الصوت، ووجهه انقلب وكأنه جزء من الناي، وكأن الناي خلق وجها حتى استغرق في العزف، وتحول صوت الناي إلى أنين يشبه البكاء؛ ألم خالص أو عبودية خالصة، ارتجف لها جسدي، ينفخ وعروق رقبته تكاد تنفجر حتى أنني جرى لي ما يشبه الغيبوبة من التعب المضني، حتى أنني لم أرها وهي تلبد جوار الخال وعيناها تجوس في المكان وكأنها لا ترى أحدا".

ويضيف: "خلعت الخمار فبدا وجهها منيرا وموردا وبديعا، وبدت شفتاها مكتنزتين وحمراوين، ثم وقفت وبدأت تدور حافية وتنتقل في رشاقة فراشة حول مركزها، ثم نزعت غطاء الرأس وتدفق شلال من الشعر الأصفر تناثر على وجهها وظهرها وهي تتمايل وتهتز على صوت الناي، والضوء يخفت والحجاب ينزلق عن ثوب شفيف ملتصق بالجسم الذي عرق فبدا النهد والأرداف، السيقان، السرة، والخال تترقرق في عينيه الدموع".

المجموعة القصصية "جسد في ظل" من إصدارات دار المالكي، العراق 2021، وتقع في 160 صفحة من القطع المتوسط.

 

الكاتب في سطور

عبد النبي فرج، كاتب مصري، يعمل في المجال الصحافي. سبق أن صدرت له روايات "طفولة ضائعة"، و"مزرعة الجنرالات"، و"سجن مفتوح"، و"الحروب الأخيرة للعبيد"، و"زواحف سامة". والمجموعة القصصية "بار مزدحم بالحمقى"، ومجموعة "يد بيضاء مشعة".

 

 

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com