"جسدي عربة بالية" لحسين حرزالله.. "مغامرة شيقة" في صراع الجسد مع القناعات
"جسدي عربة بالية" لحسين حرزالله.. "مغامرة شيقة" في صراع الجسد مع القناعات"جسدي عربة بالية" لحسين حرزالله.. "مغامرة شيقة" في صراع الجسد مع القناعات

"جسدي عربة بالية" لحسين حرزالله.. "مغامرة شيقة" في صراع الجسد مع القناعات

يخط الشاعر الفلسطيني، حسين حرزالله، مربعات تجريبية متنوعة، فيما يخص الجسد وصراعه مع القناعات، في مجموعته الشعرية "جسدي عربة بالية" الصادرة عن دار رواشن للنشر والتوزيع، 2019.

من خلال شعره، ينادي الشاعر الفلسطيني على داخله المُحمّل بالأحزان، كي يصل إلى منطقة محايدة مع متاعبه، ومخزونه المعرفي تجاه نفسه، والتفاصيل المتناهية في الصغر. ومن خلال همه الوجودي وإحساس الخيبة من كافة الاشياء من حوله، يتقاطع حرز الله مع المؤلف والفيلسوف الفرنسي، صمويل بيكيت، حين يقول: "أنت على الأرض، لا يوجد علاج لذلك".

غرق

لحرزالله رؤية شعرية لمكوناته النفسية، فهو يخوض مغامرة مع تلك المتغيرات التي تؤرقه مع الحركة المستمرة للقناعات داخله. تلك الدوامات المتشكلة من الكلمات، تغلق حدودها حول القارئ، بشكل يفتح الاحتمالات على التجديف الصعب، ذاتها الحلقات التي تتسبب في الغرق وسط الإحساس والمعنى.

يقف مثل سر

أما لغة حرزالله، فتصطف في الغالب، مثل "فريمات" سهلة التركيب، تصلح لأن يضع أي شخص موضوعه الحيوي داخلها، ويستشعر وجوده بين القصائد. هذا يتحقق بما يحدثه الشاعر من صراخ صامت على وعيه، وقدرة على تقليب صور الزمن الملتقطة مع قلبه؛ فذلك القلب الذي يمضي الشاعر الفلسطيني إلى تعليقه فوق أكرة باب المنزل، من الداخل، حين يهم بالخروج، وفي ظرف آخر، يضعه على طاولة أفكاره، أو يخفيه كما يخفي ملابسه، داخل خزانته المظلمة. ومثل طفل، يقوم بتأنيبه عند الحاجة. إلا أن هذا القلب المشاغب، يقف مثل سر في طريقه، يتعثر به كلما هَمّ لفهم معنى الحياة.

واو العطف

ويمكن ملاحظة أن للشاعر ثيمة مكررة في شعره، تعتمد على التوصيف المتتالي للمشاهد الفنية، الجمل التي ترتص بشكل متتابع لتنقل الحالة الشعورية، ويُلاحظ أنه، بأسلوب التقرير أو المُحقّق، وواو العطف المحذوفة، كثيرًا ما يستدرج حرزالله عاطفته.

وتتجلى المساحة التي يدور فيها شعر حرزالله، في معاني الخذلان من ماضيه، والنقم على استمرار معارضة الأحداث لفكرة وجوده، كما ويبحث بين أسطر شعره عن الحب، الذي كان غائبًا في مسيرته القصيرة.



الدرب الوعر

وتبدو عملية التقريب، عند حرزالله، بين ما يحياه المرء وما يجب أن يحياه، مستحيلة، لولا الخيال. فيشاكس أمنياته مع قصيدة"عائد إلى المنزل"، ليعوض ما اعتاد على فقدانه. حيث يكتب:" في طريق العودة، أصطدم بأفكار الرجال الناجين من الحرب، أصير بسمة على وجه ثكلى، بسمة على وجه طفل ميت، زهرة يابسة فوق  قبر (بدون اسم)، رسالة في قدم طائر في القرن الواحد والعشرين، أو حكاية مسائية لأطفال لا ينامون، عائدًا في طريق العودة، أكون تائهًا، وأصطدم بنفسي". فكأنما لحرزالله هنا تأكيدات على أن درب الشّعر، الدرب الوعر، المُعد خصيصًا للتصادمات المكررة مع النفس، كطريقة لتفسير العالم بكل تغيراته.

آلات حياكة

ولا يكف حرزالله بشعره، عن مساومة التشكيلة الواسعة من محبطات الحياة، برحلة عكسية مع الزمن والأشياء. كما ويسابق بمشاعره الداخلية آلات الحياكة التي تقدم الأحداث بخشونتها، وحضورها الصلب. فما بين التأمل في وجوه الناس، وملامح الطيور، والرسائل القديمة، واللعب مع الوجوديات، وتجزيء الجوامد والمتحركات، يصنع رحلته، التي في الغالب ما يخسر فيها ومع ذلك يكررها. بذلك تكمن هدفية الشعر، ورؤيته الفنية، في تجسيد ما لا يُعقل، ولو للحظة.

حفرة على المسرح

ويتم في بعض النصوص الربط بين المفاهيم الكبرى في الحياة، والأدوات الصغيرة التي يعيشها الإنسان، وهو ما يحدث مفارقة فنية مثيرة.  مثل نص "رسالة من مجهول" الذي يكتب فيه:"الحب رسالة سامية، لكنه لسبب ما، لا يصلني. الفجوة بيني وبين الحياة تتسع أكثر، الحب يبقى بعيدا. الرسائل التي لا تصل، لم ترسل بطريقة مناسبة، أو لم تحمل عنوانًا مناسبًا، أو يكون الوقت هو المشكلة". هنا يتحول الحب إلى نصوص وعناوين تشكل أزمة فعلية للمرء،  وتقصيه خارج الزمن، فتصير خشبة المسرح التي تحمل منتظر الرسائل، محفورة من المنتصف، ممثلة تهديدًا مستمرا له. ويؤكد الشاعر على ذلك بختام القصيدة:" المعضلة أن تستمر الحياة دون حب، أو على الأقل دون رسالة من مجهول".



تفريق وتجميع

وفي مسار آخر، يلعب الفلسطيني حرزالله شعريًا، على حالات المادة، تبعًا لأثر الزمن على الإنسان. فيختار لحظة ما، ويؤكد على شعوره بها، ثم يبدأ تجربة اختزال الجسد الصلب إلى حالته الغازية. كما فعل في نص "اللحظة الراهنة" حين كتب:" في هذه اللحظة تحديدًا، تحلم أنك لم ترَ شيئا حقيقيًا من قبل، وأن أضغاثًا مفترسة نهشت أيامك، وأنك ستفيق في النهاية على ما يبرر لك الظلم والظلام، اللذان تركاك دون ملامح تتذكر بها نفسك. ولأنك لم تكن تحلم، تفيق حين تصير غبارا في الهواء، يتأفف منه الناس، وتفكر: كم جسدًا استنشقت في حياتك المزعومة؟".هذا التفريق والتجميع، يكسر الحالة الشعورية المتصلبة داخل الجسد، ويحرر المرء من التابوه الذي يحبس القلب ويؤطره.

بعد الفراغ من "جسدي عربة بالية"، قد تتوقف العربة عن السير، لكن التشابكات مع قصائدها لن تنقطع، تلك التي اختتم الشاعر الفلسطيني الكثير منها بإحداث الصدمة الفنية اللغوية، من خلال تبديل الصفات بين الأشياء، ما أثار الدهشة في مرات عديدة، وهو ما يمكن اعتباره، من أهم ملامح قصيدة النثر، حين يراد تصنيف الشعر توصيفيًا.

وعلى الرغم من ثقل القناعات المحمولة في  نصوصه، إلا أن حرزالله  يعمد إلى الالتزام ببساطة التركيبات اللغوية، مع الحفاظ على تركيز النص، وكثافة المعنى.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com