تعويم الجنيه المصري.. شدة "مستنصرية" جديدة ونظرة على حلول "المقريزي"
تعويم الجنيه المصري.. شدة "مستنصرية" جديدة ونظرة على حلول "المقريزي"تعويم الجنيه المصري.. شدة "مستنصرية" جديدة ونظرة على حلول "المقريزي"

تعويم الجنيه المصري.. شدة "مستنصرية" جديدة ونظرة على حلول "المقريزي"

ما أشبه الليلة بالبارحة، وما يحدث في زماننا من شدائد ومحن، نتصور للوهلة الأولى أنها صنيعة أيدينا، ومحل اختياراتنا، سنجدها مدونة ومحفوظة في كتب التاريخ، تعيد إلى أذهاننا القدرة على استيعاب الماضي، لكي نحلل الحاضر وننقذ المستقبل من تكرار أخطاء تاريخية فادحة وقعنا فيها ولم نلتفت لدراستها والأخذ بأسبابها.

وجاء قرار الحكومة المصرية، بتعويم الجنيه بناءً على نصيحة اقتصادية من صندوق النقد الدولي، لكي يمنح مصر القرض المقدم من جانبها، ليؤدي بالضرورة إلى تصاعد المخاوف من أن تحمل الأيام القادمة للمصريين، شدة معيشية، وضيقًا في الأقوات والرزق فوق طاقتهم واحتمالهم التاريخي على شدائد الأمور، بل سيرفع تقرير من جانب صندوق النقد الدولي، لوصف البلاد والعباد في مصر المحروسة ونتائج تعويم عملتهم، في فنائهم الجماعي بسبب الغلاء الفاحش في الأسعار، وما يتبعه من مجاعات تعصف بأي مجتمع، وتجعله مشلولاً عن تقديم عطائه التاريخي والحضاري.

هذا التقرير من جانب صندوق النقد الدولي، جاء التاريخ بمثله منذ أكثر من 600 عام ويزيد، حينما كتب المؤرخ الكبير "المقريزي" المولود بحارة "برجوان" في قاهرة المعز، المولود في القرن الرابع عشر الميلادي، لأب لبناني وأم مصرية، عما واجهه المصريون في السنوات الأولى من القرن التاسع الهجري، والخامس عشر الميلادي، من استشراء الفساد السياسي، ووصوله إلى السلطان، رأس الدولة والقضاء، وتوحش الاستغلال الاقتصادي من قبل الفئات المسيطرة في المجتمع، وعلى حساب المنتجين من فلاحين وحرفيين صغار، في دراسة اقتصادية مبهرة بلغة زماننا، يقدم فيها المؤرخ الكبير "المقريزي " الحلول والإجراءات المالية، التي يجب على الحاكم اتباعها حتى يقضي على غلاء الأسعار ويضبط الأسواق، ويمنح الحياة الكريمة لجموع المصريين، تحت عنوان: "إغاثة الأمة بكشف الغمة".

مجاعة في مصر

وكان لـ"المقريزي" السبق قبل صندوق النقد الدولي، بقرون طويلة، في طرح قضايا اقتصادية غاية في الخطورة، عن تقدم الأمم ووصول تطبيق حلولها إلى مرحلة الكفاية والعدل في التوزيع والإدارة المستنيرة للأزمات الاقتصادية الطاحنة، راصداً  18 مجاعة ضربت مصر عبر التاريخ.

وكشف المآسي التي عاشها المصريون بسبب الغلاء والجوع، وأسباب المجاعات و "سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد".

واتفق المقريزي وغيره من المؤرخين، على ارتباط المجاعة بنقص الفيضان، وتراجع الزراعة، وقلة المحاصيل وفناء الثروة الحيوانية، وظهور الغلاء، وهي نفس الأسباب التي يعاني منها اقتصاد مصر في عصرنا الراهن.

في هذا الكتاب البليغ "إغاثة الأمة بكشف الغمة" لـ"المقريزي" والذي لا تتعدى صفحاته المائة، يدشن لمصطلح المجاعة بمعناها القاسي والمؤلم، وكما عاصرها أهل مصر أيام الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، من تاريخ الدولة الفاطمية في مصر 1036-1094م، وعرفت بالشدة المستنصرية، حيث أطبقت بخناقها على المصريين سبع سنوات متواصلة، حتى أن الخليفة "المستنصر" نفسه، باع كل ما يملك في القصر، وكان ثمانون ألف ثوب، وعشرون ألف درع، وعشرون ألف سيف محلي، وحتى الجواهر المرصعة بالأحجار الكريمة بيعت بأبخس الأثمان، ولم يبق له إلا حصيرة يجلس عليها وبغلة يركبها وغلام واحد يخدمه.

وأشار "المقريزي"، إلى أن الناس أكلوا القطط والكلاب، قائلاً: "أكل الناس القطط والكلاب، بل تزايد الحال، فأكل الناس بعضهم بعضًا، وكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها وعليهم سلب وحبال فيها كلاليب، فإذا مر بهم أحد، ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت، وشرحوا لحمه وأكلوه".

رسالة اقتصادية

ولم يكتف المؤرخ الكبير برسالته الاقتصادية الوافية في "إغاثة الأمة في كشف الغمة" بل حارب ظاهرة النسيان عند المصريين، بحوادث التاريخ وتشابهها كل فترة زمنية، ففي كتابه المهم "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء" يعيد ويزيد في محن أهل مصر وأزماتهم المالية التي تظهر مع الفساد في كل عصر فيورد : "ظهر الغلاء بمصر، واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال، وكثرة الفساد وأكل الناس الجيفة والميتات، ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به، وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط، وبلغت رواية الماء دينارًا وبيع دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارًا اشترى بها دون تليس دقيق وعم مع الغلاء وباء شديد وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد، فانقطعت الطرقات براً وبحراً إلا بالخفارة الكبيرة مع ركوب الغرر، وبيع رغيف من الخبز زنته رطل في زقاق القناديل، كما بيعت التحف والطرق في النداء: خراج، خراج، فبلغ أربعة عشر درهمًا وبيع إردب قمح بثمانين ديناراً، وبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير.

فهل نعود و نقرأ التقرير الاقتصادي الذي رفعه إلينا المؤرخ الكبير "المقريزي" منذ قرون مشمولاً بالحلول، أم آفة حارتنا النسيان، كما يقول كاتبنا الكبير "نجيب محفوظ".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com