منذ أن وطأت قدما سيدنا إبراهيم -عليه السلام- أرض التلة، وبدأ يحلب غنمه، ويتصدق بحليبها على الفقراء، الذين كانوا يقولون "حلب الشهباء" أي حلب غنمه، أو ماعزه، حتى منحها الرسول الكريم اسم "حلب"، والتي أصبحت مدينة الأدباء والشعراء والرحالة والمغامرين، الكل يأتيها وفي قلبه شوق للسير في دروبها العتيقة، يمشي في دعة وأمان، تستقبله رائحة الزعتر وصابون الغار الحلبي، التي تفوح من شوارعها وأسواقها القديمة.
وتبقى مدينة حلب السورية زهرة المدائن على امتداد تاريخ الإبداع العربي؛ فالشاعر اللبناني بشارة الخوري "الأخطل الصغير"، كانت لحلب مكانة كبيرة في قلبه، ترجمها في الكثير من قصائده كقوله: "نفيتَ عنكَ العلا والظرف والأدبا، وإن خلقت لها إن لم تزر حلبا، ألف المجد سفراً عن مفاخره، لراح يكتب في عنوانه حلبا".
ويفتخر الشاعر السوري محمد كمال بأنه ينتمي إلى تراب "حلب الشهباء"، فيقول: "ليس مني بل منك أنت العطاء، أنت سر الإبداع يا شهباء، كيف أخشى من الزمان افتقاراً، وانتسابي إلى ثراك ثراء".
وكان الشاعر السوري الكبير نزار قباني قام بزيارة إلى مدينة حلب، بعد انقطاع كبير عنها، فلما اعتلى منبر الشعر هناك ارتجل قائلاً: "كل الدروب لدى الأوروبيين توصل إلى روما، كل الدروب لدى العرب توصل إلى الشعر".
ومن أطرف ما كُتب عن مدينة حلب، ما تغنّى به الرحالة دي لاسال، الذي كان يزور حلب، فعشق الفستق في كروم حلب، ومن المعلوم أن صوت تفتح الفستق يُسمع مع السحر، وبخاصة في الليالي المقمرة، وكأن فتحته ثغر جميل، ويسميه الحلبيون (حبّ الفهم)، وللشاعر عادل الغضبان قصيدة جميلة، في مدح الفستق، يقول فيها:
والفستق الحيران أطبق جفنه ** غيظاً ولاح بوجنة صفراء
يرنو إلى الصيف الجميل لأنه ** يختال فيه بحلّة حمراء
أما الأدباء الحلبيون، فقد جعلوا عالمهم الإبداعي مدينة حلب، بحكاياتها وأهلها وطبيعة جغرافيتها الإنسانية، فالكاتب الحلبي نهاد سيريس (1950) ألَّف عدداً من الروايات والمسرحيات والدراما التلفزيونية، تدور معظمها حول مدينة حلب، وتاريخها والعلاقات الاجتماعية التي تحكم سكانها، ويعتبر أول من أشاع اللهجة الحلبية في أعمال الدراما السورية، وكانت أولى رواياته بعنوان "السرطان" العام 1987، وهي تتحدث عن "عبد الله"، الذي عاد من بلد الاغتراب؛ حيث أصيب بمرض عضال، ليعود إلى مدينته الأولى حلب، في رحلة تبحث بداخله عن هويته وحنينه إلى الطفولة، كذلك روايته "حالة شغف"، والتي صدرت العام 1998 في بيروت، وترصد الرواية عالم النساء، والطرب النسائي في مدينة حلب خلال ثلاثينيات هذا القرن.
وهناك من الروائيين، من جعل خوفه على مدينته حلب، رمزًا للخوف على الوطن الأكبر سوريا، ففي روايته الثانية "عائد إلى حلب"، يتابع الروائي عبد الله مكسور، سرده الدرامي للأحداث، في وطنه الأم عبر العديد من الأشخاص، الذين يختلفون مع بعضهم في كثير من الأشياء، ويتفقون على ضرورة القتال حتى آخر رصاصة، فى صفحات الرواية.
أما السورية دينا نسريني، صاحبة رواية "أمل"، والتي قاربت في روايتها الأحداث في مدينة حلب السورية بشكل كبير، فتؤكد أنها لم تقصد في روايتها اللجوء إلى التنظير السياسي، وإنما أرادت الحديث عن المشاعر الإنسانية، دون ادّعاء الوعي السياسي، أو إصدار أحكام مباشرة، وهو ما جعل رأيها في الرواية ثابتًا، رغم تغيّر الأحداث.
أما خالد خليفة، فيعد من الروائيين السوريين الذين تمكنوا من تناول الأحداث في سوريا بنجاح؛ إذ كتب روايته "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة"، التي تمكنت من حصد جائزة نجيب محفوظ للرواية العام 2013، كما أنها وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر العام 2016، وتتناول حياة إحدى الأسر السورية التي تتأثر بحالة التفكك داخل المجتمع السوري خلال ربع قرن من الزمان، ويثار من خلالها الجدل حول معاناة الشعب السوري في ظل الحكم الدكتاتوري.
مدينة حلب، المولودة منذ 7 آلاف عام قبل الميلاد، مهددة الآن بالدمار الكامل بعد أن تهدّمت أجزاء واسعة منها، بفعل القصف العنيف عليها، وتخشى منظمة اليونسكو أن تتعرض مواقع التراث العالمي في هذه المدينة لأضرار لا يمكن إصلاحها أو ترميمها، فهل حقاً ما سيتبقى من حلب المدينة بيوت الشعر وشخوص الروايات المكتوبة على الورق؟