المنشأ الديني للفنون التشكيليَّة
المنشأ الديني للفنون التشكيليَّةالمنشأ الديني للفنون التشكيليَّة

المنشأ الديني للفنون التشكيليَّة

ساهم التوجُّه الديني للبشر في فرض رؤىً ثابتة، وتحديد مسار الفنون عموماً، والفنون التشكيليَّة على وجه الخصوص، إذ استثمر رجال الكهنوت، الفن للتأثير على المتديِّنين.

وأحد أقدم الأعمال الفنيَّة في تاريخ البشريَّة، عبارة عن تمثال يصوّر امرأة، ويعود تاريخه إلى حوالي 20 ألف سنة قبل الميلاد، يغيب فيه الاهتمام بجمال الجسد، مع إهمال الرأس، إذ جعله الفنَّان مجرد كرة بسيطة خالية من الملامح، مع تضخيم الصدر والبطن بشكلٍ مفرط.

واعتبر الكثير من خبراء الآثار تلك المنحوتة، تجسيداً للأمومة، في حالتها المقدَّسة، فهي نسخةٌ بدائيّة عن عشتار أو فينوس؛ آلهة الحبّ والخصب.

وتُشير الدراسات الإناسيَّة، التي تبحث في أصل الجنس البشري وتطوُّره وأعرافه وتقاليده، إلى أنّ مخاوف الإنسان في العصور القديمة، من عالم ما بعد الموت، فرضت عليه التوجّه إلى العالم الذي يعيش فيه، ما ولَّد فنَّاً رمزيَّاً، حيث الإشارات تحلُّ محلَّ الموضوعيَّة، وتصبح تجريديَّة.

وكانت غالبيَّة الشعوب في العصور البدائيّة، تضع مثل تلك المنحوتات في الزوايا الأكثر عتمة في الكهوف، للتخاطر مع الغيبيّات والقِوى الخفيّة، ما يفسّر الإهمال الواضح للجانب الجمالي.

وفي التاريخ المصري القديم؛ كانت مهمَّة الأعمال الفنيَّة، إثبات ألوهيّة الفرعون، كمحاولة لضمان تبعيّة الشعب وانصياعه التام لأوامر الحكام.

فصورة الفراعنة غالباً ما كانت تُجسَّد في وضع جامد كهنوتي، بعيد عن الواقعيَّة، في حالة فنيَّة هي أقرب إلى التجريد في الفنّ المعاصر، مع ملاحظة الشبه التام في التعابير، وغياب الملامح الخاصّة للمنحوتات، على الرغم من اختلاف الفنانين، والعصور التي أُنجِزت فيها تلك الأعمال.

إنّ وحدة الشكل والتعابير والأسلوب في الفن المصري القديم استمرت لأكثر من 3 آلاف عام، في خضوع صارم لمعايير الدين الهادفة إلى رفع الفراعنة إلى مراتب الآلهة، لضمان الطاعة العمياء، ما رسّخ المهمّة الدينيّة للفن المصري القديم.

وكما يرى الباحث، موفق حميد، في كتابه "اللوحات العارية" إن "كلَّ إظهار طبيعي للإنسان، كان ممنوعاً، فالفنان يجب عليه تجريد كل تذبذب للجدَّة". (ص14)

كما تُعدّ النقوش الهيروغليفيَّة من أقدم الرسوم المستخدمة للتواصل، وتدوين المراسيم والصلوات الكهنوتية، إذ عبَّرت عن مقاطع صوتية محددة وفق رسوم تجريدية.

وبعد البحث والتقصي في فنون بلاد الرافدين، نجد أن تمثيل الإنسان فيها لم يأخذ بعين الاعتبار التركيز على نِسب الجسد البشري، إذ صوَر العينَين في وضع مخيف جاحظٍ، مع جمودٍ واضحٍ للجسم على غرار الفن المصري القديم.

وفي العصور الوسطى، رسخ رجال الكهنوت المسيحي تلك المهمة الدينية البحتة للفن، عبر تشجيعهم للأعمال الفنية المتمثلة بالأيقونات، وجداريّات الكاتدرائيّات والكنائس، التي تمثل المسيح والعذراء والرُّسل.

وكان رجال الكنيسة يرون في الفن داعماً أساسياً للإيمان، فمن يقرأ عن العذراء، ويسمع عنها من الكهنة، يزداد إيمانه لدى رؤية إيقونتها.

وبقي الفن في تلك الحقبة خاضعاً لسلطة الدين، إذ لم يكن له أيّ عمل آخر سوى نشر تعاليم الدين المسيحي، وكثيراً ما اقتصر على مشاغل الأديرة، إذ كانت الكتابة والرسم والتزيين حِكراً على الرهبان.

ولم ينسلخ الفنّ التشكيلي عن الدين إلا مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، مع الإرهاصات الأولى لعصر النهضة الأوروبية، ليحاول الفنانون إعادة اكتشاف الإنسان ومقاييس الجمال، والتركيز المفرط على ملامحه في الطبيعة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com