رواية "البصاص".. عندما يختلط الشك بالحب والوطنية
رواية "البصاص".. عندما يختلط الشك بالحب والوطنيةرواية "البصاص".. عندما يختلط الشك بالحب والوطنية

رواية "البصاص".. عندما يختلط الشك بالحب والوطنية

أكتب عن رواية تستحق أن تقرأ، ويستحق كاتبها منك أن تشكره وتثني عليه، لأنه دخل عقلك المستريح لما تعلمته في كتب التاريخ المدرسية، وقلب جعبتك التاريخية المليئة بأبطال وقادة، أمثال صلاح الدين ومحمد علي ومصطفى كامل، رأساً على عقب، وربما عندما تفرغ من قراءة روايته، تتلفت حولك متحسساً ملامح وجهك، مفتشًا داخل نفسك عن "بصاص"، يشي بزملائه وجيرانه وأحبائه دون وعي منك، ودون أن تدري أنك ذلك "البصاص الأكبر".

رواية "البصاص" للكاتب والروائي مصطفى عبيد، هي دعوة لقلق راحتك الذهنية، وإعمال عقلك طوال صفحات الرواية، لحقيقة ما يقدمه لك البطل "كرم البرديسي"، شعورٌ ما بالارتياب والحذر ينتابك تجاهه، لعبة ماكرة من السرد اللذيذ بينك وبينه .

"البصاص" هو مرادف الشرطي في زمن "محمد علي"، وهو ضابط متوسط يدير مجموعة من المخبرين الصغار، الذين تتنوع مهامهم بين نقل الحكايات والتعرف على توجهات الناس، وكشف أسرارهم، وتحليل توجهاتهم، وبث الشائعات بينهم، والتشنيع على خصوم الحكم.

كان "البصاص" في كثير من الأحيان يعتمد بشكل رئيسي على رجال يعملون تحت إمرته، قبل أن يقوم "محمد علي" ورجاله وعلى رأسهم الكتخدا محمد، بدفع البصاصين لتجنيد قوائم مختلفة من عامة الشعب وخاصتهم، لنقل الأخبار والأسرار، دون أن يشعر أياً منهم بأنه يخون من تتم مراقبته.

"كرم البرديسي" بطل الرواية هو واحد من البصاصين الجدد، أحفاد بصاصي "محمد علي" من عامة الشعب الذين لا يشعرون أنهم يخونون من يراقبونهم ويستحلون حريتهم أمام أجهزة الأمن، ينصّب محكمة لنفسه يبرر فيها خيانته ووشايته بأستاذه المشرف على رسالته للدكتوراة، الدكتور "محمود مندور"، صاحب النزاهة العلمية والمواقف الوطنية، ما جعل الأخير يصاب بجلطة، أفقدته النطق والحركة، وبالتالي أفقدته قدرته على التدريس.

الكل عند "كرم البرديسي" مدان لا يتحدث عن الصالحين من أبناء الوطن، أمثال "حسن طوبار"، أسد المقاومة في المنزلة أيام الحملة الفرنسية، إلا عبر مقال يكتبه لصحيفة وهمية، أثناء طقس يمارس فيه احتساء زجاجتين من البيرة تجعله شبه مغيب، ليقنع عقله الواعي أنها تنشر، ولكنه عازف على قراءة ما يكتبه فيها لكي يقبض 500 دولار شهريًا، تعينه على دخله الهزيل من الجامعة، يحاول مرارًا وتكرارًا نسيان اسم قائده البصاص الأكبر "رأفت"، الذي جنده لكي يراقب الجميع ويشي بالجميع .

يلعن "كرم البرديسي"، ويدين على الملأ، وبكامل وعيه أسلوب العسس والنظام البوليسي في عهد "محمد علي"، متخذًا من وثيقة "العسس" التي تركها له والده الراحل "سالم البرديس"، الموظف بدار المحفظوات والخبير بطبيعة الوثائق والمخطوطات، والذي علل الأخير سرقته لها واستأمن ابنه "كرم" عليها، بأنها كانت عرضة للسرقة والبيع لأثرياء عرب، لنكتشف وعبر سرد شيق وماكر، أن والد كرم البرديسي "بصاص" قديم، قدم "وثيقة العسس" الأصلية لجهاز أمن الدولة، شريطة أن يعين ابنه معيداً في الجامعة معتبراً هو الآخر ما فعله كان واجباً وطنياً لحماية الوثيقة من السرقة والبيع .

"كرم البرديسي"، جوقة من الوطنية المصطنعة، لا يمل من الحديث أمام صديقه "حسن السويس"، الناقم على كل شيء، والحالم بعدالة أرضية أن صلاح الدين الأيوبي، دكتاتور رهيب لا يتورع أن يجعل ابنه يقتل "السهروردي"، فقيه العلم والدين، وأن "محمد علي" داهية وأكذوبة تاريخية كبرى، وأبو جعفر المنصور، سفاح العباسيين بلا منازع، ولكن في الليل وبعيداً عن الجميع، نعرف أنه تلميذ نجيب لبصاصي هؤلاء السفاحين من الطغاة والحكام، يكتب ورقات بيضاء صغيرة عن تحركات الطلبة الإسلاميين في الجامعة.

كما يكتب عن صديق عمره "أمجد سامح" الثوري الشيوعي، ويخبر الأمن عن كل ما يعرفه عنه، حتى لا يفضح أستاذه الانتهازي "عفت عزام"، حتى أنه لا يتورع أن يكتب في أوراقه الصغيرة البيضاء عن حبيبته "ندى"، الصحفية بالأهرام، العاشقة للأدب والشعر واللغة الفرنسية، حينما فكرت أن تكتب كتاباً توثق فيه حالات التعذيب في جهاز أمن الدولة، فقدم شهادات توثيق التعذيب في السجون والأقسام المختلفة التي ساعدها فيها، إلى أمن الدولة.

ينتظر "كرم البرديسي" الأيام الباقية لكي يسافر في منحة إلى بلد كريستوفر كولومبس "مكتشف أمريكا"، تاركًا وراءه خيانته للجميع، يشرب من كأسه ويقرأ: "عينا البصاص لا تمسهما النار، لأنها باتت تحرس في سبيل الله، يسجل الشاردة والواردة، يدقق النظر في وجوه الخلق مستقرئاً خباياهم، ومفتشاً أسرارهم، عيناه مسلطة على الجميع، الكبير والصغير، الغني والفقير، الأبيض والأسود، العبد والسيد، كل نظرة وراءها غرض متى خرجت من ألسنة الإفك وصناع الفتن لتنسل في لحم الدولة".

يا ترى كم بيننا وحولنا وداخلنا "كرم البرديس"؟. سؤال قفز في ذهني عندما طويت عيناي على آخر كلمة في تلك الرواية المدهشة، للروائي مصطفى عبيد، والتي أعتبرها وبحق بدايته الحقيقية في مناكفة العقل وتبكيت مزاج القارئ الكسول .

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com