الأدب العالمي وتحديات الانفكاك من "التبعية" الأوروبية
الأدب العالمي وتحديات الانفكاك من "التبعية" الأوروبيةالأدب العالمي وتحديات الانفكاك من "التبعية" الأوروبية

الأدب العالمي وتحديات الانفكاك من "التبعية" الأوروبية

لم ينفك مصطلح الأدب العالمي، منذ تأسيسه على يد الفيلسوف الوجودي الألماني غوته في القرن التاسع عشر، من التبعية الأوروبية، ليظل وصول آداب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى العالمية محدودا على مدى عقود.

المركزية الأوروبية

وعزز تأخر وصول الآداب المهمشة -إن صح التعبير- "عنصرية المثقفين البيض" التي بقيت ماثلة في آدابهم بوضوح حتى ستينيات القرن الماضي.

وشاب مؤلفات الغربيين منذ عصر النهضة الأوروبية تطرف وانحياز لتفوق العرق الأبيض، وظهر ذلك بوضوح جلي أحيانا، وتوارى في مجازات الأدب في أحيان أخرى.

وحين نطالع عيون الأدب الغربي نشهد فقرات تصف شعوبا بأكملها بالتخلف الاجتماعي، في نظرة نمطية منحازة؛ كما نلمح في آداب الفرنسي ألبير كامو وأحكامه المسبقة التي أطلقها على الشعب الجزائري، أو آراء جورج أوريل المتطرفة في مؤلفاته.

وبالعودة إلى فترة أقدم نرى أن الحالة كانت أشد عدائية؛ ومثال ذلك تهجم الكاتب الروسي ميخائيل ليرمانتوف على أقوام بأكملها؛ وهو من وصف الأرمن في روايته المشهورة "بطل هذا الزمان" في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بأنهم "شعب قذر".

رفض مصطلح الأدب القومي

ونقل الباحث دانييل باجو في كتابه "الأدب العام والمقارن"، عن غوته؛ قوله: "إذا لم نلتفت نحن الألمان بأبصارنا إلى ما وراء محيطنا الحالي، سنقع بسهولة في زهو وتعجرف".

ويضيف غوته، الذي كان من أوائل الأوروبيين الذين سلطوا الضوء على فلسفات الشرق وآدابه: "إن كلمة أدب قومي لا تعني كثيرا اليوم، فنحن نسير نحو عصر الأدب العالمي، ويجب على كل فرد المساهمة في تسريع قدومه".



مدى صحة المصطلح

وعن مدى صحة مصطلح الأدب العالمي؛ قال الناقد العراقي كامل الدليمي، في حديث خاص لـ"إرم نيوز": "مما لاشك فيه أن مصطلح الأدب العالمي ظهر على يد غوته وتطور على يد شيلر، لكن الموسوعات العالمية لم تحدد بالضبط إلى يومنا هذا تعريفا جامعا وشاملا للأدب العالمي، ونميل إلى تعريف محدد؛ مفاده أن الأدب العالمي يُعنَى بالتركيز على العلاقات الإنسانية من خلال الأدب، وهي التي تنسج علاقات قائمة بين المجتمعات باعتبار أن الآداب ذات سمة عالمية".

وأوضح: "يمكن القول إن ارتباك تعريفات الأدب العالمي وعدم الخلوص لتعريف محدد سببها اختلاف اللغات ومهمة الترجمة باعتبار أنها تقرب موضوعات الأدب وأجناسه، من خلال إعادة صياغتها باللغة التي يفهمها المجتمع المُترجَم له، فقد لا تكون الترجمة ذات قدرة كبيرة على توصيل الرسالة الأدبية وخاصة الشعرية وعملية التقارب الأدبي".

البعد السياسي للمصطلح

من جانبه، قال الكاتب الجزائري فيصل الأحمر، لـ"إرم نيوز": "شخصيا كلما سمعت المصطلح خطر ببالي البعد السياسي الكامن خلف جميع الخطابات، كما علمنا ميشال فوكو الذي كان يحذر دائما من الاستراتيجيات الكامنة خلف كل تسمية؛ فالعناوين الجامعة كالأدب العالمي هي فخاخ علينا أن نتساءل دوما: من أطلقها وماذا أراد بها؟".

وأضاف: "قليل من البحث في تاريخ المصطلح ومفهومه يجعلنا نقف أمام تسمية ظهرت في الفترة الاستعمارية التي شهدت المركزية الغربية المطلقة، وعبرت عن رغبتها في خلق إطار عام يجمع متناقضين جوهريين من خلال إلحاق آداب أبناء البلدان المستعمَرة بأدب كبير؛ هو أدب المستعمِر، لذا فالمصطلح على الرغم من أنه تطور كثيرا في الوعي الأكاديمي إلا أنه يظل حاملا لجينات تستوجب كثيرا من الحذر".

ونقلت الأستاذة الجامعية الجزائرية سعيدة بشار، عن الباحثة الأمريكية سوزان باسنيت، أن "المقارنين (الأوروبيين) ظلوا طوال القرن التاسع عشر يصرون على أن المقارنة تحدث على محور أفقي، أي بين متساويين، وكانت إحدى نتائج ذلك أن دارسي الأدب المقارن كانوا أميل إلى دراسة الكتَّاب الأوروبيين فقط".

وترى بشار أن "هذا التصور ينطوي على نظرة استعلائية تعتبر آداب الشعوب غير الأوروبية أقل شأنا، وغير جديرة بالدراسة أو مؤهلة للمقارنة، وتم وسمها بصفات عدة تحمل معاني التصغير والتحقير؛ كان من ضمنها الآداب الصغرى، والقاصرة، والهامشية، والمهمشة..".

جودة المضمون

والآن، ومع تلاشي الحدود معرفيا، في عصر تقنيات المعلومات والفضاء الافتراضي العالمي، يبدو أن تلك النظرة الشوفينية بدأت بالتلاشي تدريجيا، في ظل تقديم أدباء العالم الثالث نتاجا أدبيا رفيعا، نجح في الوصول إلى العالمية، وأثبت نفسه بقوة في جميع بقاع المعمورة.

وفي هذا الإطار؛ قال الناقد كامل الدليمي، لـ"إرم نيوز" إن "التقنيات الحديثة ساهمت في تفعيل حركة الأدب العالمي، ولا ننسى جهودا قدمها بايرون وشيلي وكنتس ومكسيم غوركي وقائمة طويلة من الأدباء العالميين، ممن أداموا زخم هذا المصطلح وعمموه ليشمل الدول الناطقة باللغة العربية، فحين تترجم الأعمال الأدبية العربية لتصل إلى المجتمعات الأوروبية، فهذا يعني أننا قد حققنا نصرا كبيرا لأدبنا العربي بجميع أجناسه".

في حين يرى الروائي فيصل الأحمر، في حديثه لـ"إرم نيوز"، أن "الجودة ليست مطروحة كمقياس، فلنتفق أولا أنه لا بد من حد أدنى من الجودة يخول لهذه الأعمال أن تنال الرضا، ولكن ما ينال شارة (عالمي) هو أساسا ما يتماشى مع مصالح العالم الرأسمالي الغالب الساحق لكل خصوصية عدا خصوصيته، أي أنه الأدب المستجيب للنموذج العالمي، الذي نشأ بعيدا عنا وبمعزل عن مشاركة جبهة المغلوبين؛ وهذه مشكلة استعمارية".

وأضاف: "هناك روايات عربية كثيرة نجحت محليا وكان لها تواجد عالمي باهت. وهذا يجرني إلى الاعتقاد أن العالمية المنشودة لأعمالنا العربية هي قبولٌ؛ دوائره محدودة جدا، ومُتحكَّم فيها من أطراف معينة في الإعلام (العالمي) تظهر أفعالهم دون أن تظهر وجوههم، وذلك بمعزل تام عن الجودة أو محدوديتها الفنية".



عائق اللغة

واعتبرت الباحثة الأكاديمية سعيدة بشار أن أحد العوامل التي تعيق الوصول إلى العالمية "يتمثل في الانتشار الذي تحققه لغة العمل الأدبي.. ما يفسر الانتشار الأقل لآداب كُتِبت بالصينية أو العربية أو لغات أخرى على الرغم من التعداد الهائل للمتحدثين بهذه اللغات عبر العالم".

وقال الدليمي: "الحقيقة التي لابد أن نعترف بها أن الغرب نجح في نشر آدابه وفنونه في معمورتنا العربية، بينما نحن لم نصل إلى الحد الأدنى من إيصال رسائلنا الأدبية للغرب، وربما كان السبب في ذلك هو الترجمة وليس التلقي الذي شكل عائقا أمام كل ما هو عربي مترجم إلى اللغات الأخرى، بينما تقبلنا كل مترجم قادم من الآداب الغربية وعليه فإن الترجمة والتلقي سببان رئيسان في شيوع ذاك على حساب هذا".

وأضاف: "أود أن أشير إلى تهافت كبير من قبل العرب المجيدين للغات أوروبية على ترجمة الأعمال الغربية، وتقديم وجبات أدبية غربية للمتلقي العربي، في حين نشهد ضعفا عاما في حصول العكس، وقد يكون السبب هو النظرة التي يحملها المترجم تجاه ما يصدر من أدب أوروبي، ويقابلها عدم ثقة بما يصدر عن الأدب العربي، وتلك إشكالية كبيرة بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة".

في حين يرى الأحمر أن "اللغة لا يمكن لها أن تكون عقبة، فهي لم تكن كذلك في العالم القديم الذي كانت تعوزه التقنية والإمكانيات الواسعة للاطلاع على آداب الأمم الأخرى، لذا لا أتصورها مطروحة اليوم كعقبة أمام اعتبار مثل العالمية، في جانبها المشرق الضيق الذي هو المثاقفة والوعي الأوسع بالمشترك في الحس والفكر على مستوى تجارب البشر الذين يربطهم جوار ما على كوكب ليس كبيرا إلى هذه الدرجة".

وأوضح أن "مسألة اللغة يمكن طرحها كعائق، لسبب واحد؛ وهو نزوع العالم في صبغته النيوليبيرالية المهيمنة اليوم صوب النمذجة وفرض لغة الصيغة الفكرية والسياسية الغالبة على الجميع تحت ادعاء أن الإنجليزية تيسر سبل التواصل بين الناس في حين أن الأدوات التقنية للتلاقح اللغوي والثقافي العابرَيْن للغات، مع احترام كل الألسن، ممكنة جدا".

وأضاف: "اللسان هوية، والقفز عليه بأية حجة كانت هو محو لأحد طرفي معادلة الحوار الثقافي واللغوي، لفائدة جانب آخر، يتم تثبيته وفرضه بالإكراه في أغلب الحالات".

من جانبه أوصى الدليمي في ختام حديثه لـ"إرم نيوز" بضرورة "الخروج بفنوننا وآدابنا إلى الغرب، بأربعة أضعاف ما خرج به الغرب إلينا عن طريق مدارس الاستشراق التي أسسها لفهم المتون العربية، بينما ما زالت جميع محاولاتنا في ذلك خجولة ولم ترتقِ للمستوى المطلوب".

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com