مجموعة "إذ رأى نارًا" للشاعر جمعة الرفاعي.. البحث عن الحقيقة بطابع صوفي
مجموعة "إذ رأى نارًا" للشاعر جمعة الرفاعي.. البحث عن الحقيقة بطابع صوفيمجموعة "إذ رأى نارًا" للشاعر جمعة الرفاعي.. البحث عن الحقيقة بطابع صوفي

مجموعة "إذ رأى نارًا" للشاعر جمعة الرفاعي.. البحث عن الحقيقة بطابع صوفي

يتناول الشاعر الفلسطيني "جمعة الرفاعي" العديد من القناعات البشرية حول جسد الإنسان وروحه، وكيفية الربط الفكري بينهما، للوصول إلى حقيقة ما، من خلال طابع صوفي في التفكير والإحالة، في مجموعته الشعرية "إذ رأى نارًا"، الصادرة عن دار الرعاة وجسور الثقافية 2021.

وتعمل المضامين في شعر "الرفاعي" على التشكيك في قداسة النقطة والموضوع، بدوام البحث عن المعنى البديل في حركة الأجزاء. كما تميل نصوصه إلى استقراء المستقبل، بتأملية عالية للحدث الماثل أمامه، ويسعى الشاعر إلى إضفاء حالة تقديس على اللحظة الراهنة، باعتبارها العالم بكامله. كما يضيء من خلال نظمه إلى حضور الصدفة التي تغير مسار الحياة، ويسلط الضوء في مجموعته على التحولات في مسارات الحوادث، وتبدل التكوينات مع مرور الزمن، كما ويبحث عن نهايات مدهشة للسيناريوهات الواقعية.



 

في النصوص صوت للشعر الممتلئ بالمعاني المخادعة، والجمل المشبعة بالمواربة، بهدف التخلص من السطحية اللغوية، والجملة الصامتة التي لا تدلل ولا تضيء.

ويكتب الشاعر بضمير الأنا، الطابع الأكثر التصاقا لمكنون الشاعر، الذي يزيد من انسجامه في المشاهد المختارة للكتابة. كما يتبع في نصوص أخرى ضمير الغائب للوصول لتجربة فكرية تمس الوعي الجمعي، ولا يتوانى "الرفاعي" عن طرح الأسئلة الشعرية المتجددة، بهدف الوصول لرؤية جديدة لإشكاليات العالم التي لا تكف عن التشكل بثيمات مختلفة.

قبس

يضع "الرفاعي" في نصوصه للشعر، قداسة، من خلال الخريطة التي صمم من خلالها الكتاب. فهو يضع الكتاب في ثلاثة فصول لقب كل منها بالقبس، وأعطاها ثلاثة عناوين ذات جذور دينية، حسب الآية القرآنية، "إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى". وكان: القبس الأول بعنوان "من وصايا التردد ساعة الاحتضار: اقتحم"، والقبس الثاني بعنوان "ما كنتُ لأبتكِرَ ليْلاً لولا هذا النَّمَش"، وكان القبس الثالث، يحمل توقيعات شعرية بعنوان: "كُلَّما زادَت المَعرفةُ زادَ الفَراغ".

تناص

كما ظهر تأثر السياق الشعري لدى "جمعة الرفاعي" بالرواية الدينية من خلال العنوان، بتبعية عنوان المجموعة "إذ رأى نارا" للأسلوب في الآية 11 من سورة طه، فإنه يستمر -أيضا- في التناص مع الأسلوبية الدينية، بمحاكاة حديث الرسول محمد، فيكتب "لو وَضَعوا الخيبةَ في يمينِكَ/والخذلانَ في يسارِكَ/على أن تتركَ هذا الحزن/لن تتركَه/حتى يكونَ/من تحبّ/بسمةُ اللهِ في وجْهِك".

وعاء

تقوم شعرية "الرفاعي" على الشك في قناعات الإنسان حول ذاته، بإرشاد فلسفي يحمل الطابع الديني، ويلمح إلى الربط الصوفي للجسد بالمعنى. فينفي الشاعر الحقيقة عن السائد من الأفكار حول الجسد، ويعيدها إلى نظرية الوعائية، فالكائن يمتلئ بالمعنى، من خلال الروح الممسوكة بين إصبعي الإله. ويضع الرفاعي وفقا للخطاب الصوفي حتمية وصول الإنسان وفق خطة افتراضية غير معلنة، لكنها موجودة في خزانة الكون.

إذ يكتب الشاعر في نص:

"أنتَ لستَ حقيقياً"

"جَسدُكَ وعاء

وروحُكَ بين إصبعيْن

أنتَ لستَ حقيقياً

كلامُكَ غُبار

ومعانيكَ وإن تعدَّدَت

واحدة

أنتَ لستَ حقيقياً

خَطواتُكَ وهْم

ووصولُكَ مُفْترض

أنتَ لستَ حقيقياً

حريتُك فيكَ

وقيْدُكَ ما تصنَعُه

أنتَ لستَ حقيقياً

جمالُك فيمن تركَك

وحُبُّكَ لم تُصادفْه بعد

أنتَ لستَ حقيقياً

لأنكَ صورةٌ في الذِّهن

والذِّهنُ مُخْتَلفٌ عليه".

تحولات

لطالما كان "الرفاعي" باحثا عن التحولات التي تصنع الفارق في ذات الإنسان، فكأنما الشعر لديه رحلة من الحركة، بهدف تأطير جديد للمعاني، ومسح وشطب للمعنى القديم، أو إبقائه والبناء عليه. فكان عمل الشعر لديه مع الزمن بمنزلة حافر ومنقب، أما الجملة الشعرية فهي الموثق، والمؤرشف للحظة ما، عبر الزمن الهيولي.

يقول الرفاعي في نص"الآنَ أو غداً":

"ستأتي اللحظةُ التي تشعرُ فيها بتفاهةِ الأشياء

الأشياءِ كلِّها

ستُسمّي المدينةَ سؤالاً والقصفَ إجابة

ستُسمّي الخرابَ حباً والتَّرميمَ دَفْناً

الأشْجارَ مناحاتٍ والحفيفَ جَنازة

ثمَّ تُراودُك نفسُكَ أن تكسْرَ كلَّ مصابيحِ العالم

المصابيحِ التي في الشَّارع

المصابيحِ التي في البيْت

وكلَّ ضَوْءٍ حَجَبَ العتمة

لأنكَ ترغبُ أن تَرى".

احتمالات

يراقب نظم "الرفاعي" الشعري، حلقات التناقض التي تحيط الإنسان، وتؤثر في حالته النفسية والسلوكية، مرجعا ذلك إلى احتمالات تعد طرقا يسلكها المرء، فيكون مصيره حسب الخطى.

فما بين الأبيض اللون الموحي بسلام المرء مع المعنى، وبين الأسود، الاحتمال المودي إلى الرفض للوجود برمته، والبحث عن درب للهرب من الواقع.

فيكتب الشاعر في نص

"احتمالٌ أبيْض":

"مُتعِبة

حياةُ الذينَ يعيشونَ

وفي طرقاتِهم

احتمالاتُ السَّواد

وأنَّ هناكَ قطعةَ سوادٍ كبيرةً

بحجمِ هُجرانٍ

سوفَ تنقضُّ عليك".

قمة جديدة

فيما يشير الشاعر إلى حاجة المرء للمشاركة الروحية مع الآخر، على طريقة فيكتور هوجو، حيث الحكائية للغريب دون النظر لعرقه أو لدينه أو لجنسه، ومحو هذه التصنيفات، يهدف لتسهيل الأمر، بمشاركة المرء للحظة الجديدة الحرة، غير القائمة على المنطق والقيود، لحظة ترفع الحس البشري إلى قمة جديدة.

يكتب الرفاعي في نص "احْتياج":

"أنتَ بحاجةٍ كيْ تقتربَ من غريب

/ في قطارٍ يغادرُ عندَ أولِّ محطَّة/

في باخرةٍ يغادرُ عندَ أولِّ ميناء/

في حفلٍ وتغادرُهُ أنتَ بانتهاءِ الدَّعوة/

غريبٌ يدلُّكَ على غريبٍ آخر

بلا تعلُّقٍ أو نَدَم /

مُتعةُ اللحظةِ التي تثيرُ في داخلكَ

رغبةَ التفوِّقِ على المتعةِ السَّابقة".

توقيعات

يضع الشاعر في فصله الأخير، توقيعات شعرية مكثفة، مختصرا من خلالها الجملة الشعرية بكلمات قليلة، وموحيا بمعان يقوم تراكبها على المجاز السهل، والمعنى المبطن،

وهنا عدةٌ منها:

"لا شيْءَ ينقُصُكِ

كيْ أفكِّرَ بغيْرِك،

أنتِ كامِلة

كامِلة

مثلُ طَرْقةِ باب

بعدَ مُنتصَفِ الليل.

لم يُفكِّر كَثيراً

حتَّى إنه لم ينظرْ إلى الأُفق

ولا إلى الوَحْل

تناولَ حَجراً يتَّسِع لقبضةِ يده

ورماهُ على الظَّنّ

إنَّهم مُخطِئون ،

هؤلاءِ الذينَ يُطلقونَ وصْفَ " المَجْزرة "

على أكثرَ من قتيل

تكفي ضَحيةٌ واحدة

كي يموتَ أكثرُ من حُلم".

تقدم مجموعة جمعة الرفاعي، لغة حداثية متنوعة التراكيب والبنيات، وتشع بمضمون معرفي يتسم بالصوفية في الكثير من المطارح، وما يميز شعريته، ما تدعو إليه من تفكيك للرأي، وهدم للحقيقة المجزمة، واتباع الحدس في توصيف مغاير للمشهد. أما الصورة لديه فهي متجددة، وتوحي بخيال خصب، يجيد الالتقاط والتوصيف المحدث للجمال الشعري.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com