القصة .. شغف البشرية منذ الأزل
القصة .. شغف البشرية منذ الأزلالقصة .. شغف البشرية منذ الأزل

القصة .. شغف البشرية منذ الأزل

 تعتبر القصة من أهم الفنون التعبيرية التي تلتصق برحلة الإنسان في الحياة منذ بداية نشأته على الأرض، حيث تبرز مكانتها في قدرتها على توصيل فكرة مُركّزة بواسطة بناء فني ذات هدف، ويتم صياغة الهدف بشكل فني، يمتلك القدرة على شد الإنسان مع الدراما، منذ انطلاق الحدث القصصي، حتى تفكك الحبكة القصصية أخيرًا.

ويتميز فعل الاستماع للقصة في كونه لعبة إدراك، فيتيح للإنسان محاكاة العالم، وتخيل استراتيجيات جديدة، للتعامل مع أي حدث مستقبلي، وتفيد الدراسات الحديثة، بأن قراءة واستماع الإنسان للقصة، تُنَشّط مناطق مختلفة من قشرة الدماغ، مختصة في معالجة القضايا الاجتماعية والعاطفية، وتبين أن الإنسان كلما زاد في قراءة الخيال والتأثر به، زادت إنسانيته.

وتمتلك القصة خصوصية فنية، ليس من السهل صياغتها، فتحتاج إلى مهارة غير عادية من أجل الوصول لهيكل قصصي غير قابل للسقوط. وتنطلق صياغة القصة تبعًا للدافع السردي، فهو المحرك الأساسي لتدفق اللغة، بحيث يكون كاتب القصة، محددًا الفكرة الأساس التي يود طرحها، وكذلك الفئة البشرية التي من الممكن أن تستقبلها. إنها تمامًا مثل حصاة يعمد أحدهم لإسقاطها في بئر راكد، لتنبعث الحلقات تباعًا في المياه.

حماية الذاكرة

وتظهر صحبة القصة للإنسان منذ طفولته، فمن منا لم يتفكر في قصة ليلى والذئب. ولو رجعنا بالذاكرة للوراء، سنشعر بالكيفية التي انتقلت إلينا من خلالها مشاعر جديدة، صنعت داخلنا رؤية في جانب هام من الحياة، لحماية أنفسنا. ومن منا لم يتنقل بأحلامه مع قصة سندريلا، تلك التي زرعت في الذات الإنسانية، الطموح إلى مكان أفضل، دائمًا، في الحياة. فرجوعنا إلى الماضي  بمجرد ذكر هذه القصص أمامنا، يعيد التفاصيل الصغيرة، التي لامسناها في الطفولة، هي لحظات عاطفية، يزيد استرجاعها في حماية ذاكرتنا من التلف.

وكثيرة هي الأسرار التي تجعل للقصة هذا الأثر الشعبي، وهذا القرب من الإنسان، ولقد وُجِد أثر يدل على استخدام الإنسان فن القصة منذ 30000 ألف سنة، فظهرت لوحات على جدران الكهوف، تم الاحتفاظ بصور لها في متحف لاسكوس في فرنسا. حيث تظهر مشاهد لقصة تحاكي رحلة صيد، بهدف إعطاء دروس حياتية، للمجتمع، كما أفاد "دانييل كروغر".

قوس التوتر

وعن الآلية التي تعمل من خلالها الرحلة القصصية، فإن القصة تميل إلى وجود قوس من التوتر، في طرفيه حدثان منخفضان، عند البداية والنهاية، وكتلة مرتفعة بينهما، فيها ذروة التفاعل، والتشويق والتعلق. هي كتلة هوائية تدور بالإنسان، تعمل عمل الدوامة، بحيث تغير اتجاهات الإنسان.

وتستمر الحياة بواقعها، في طرح القصص في كل لحظة، لكن القليلين من يمتلكون القدرة على التقاط تلك القصص ونسجها، وإخراجها في قالب فني يطرح التساؤلات، ويثير في النفس حالة شعورية متأججة. لذلك هي فن يحتاج مهارات خاصة لصناعته؛ بهدف تحقيق العِبرة منه. ونلاحظ كيف تتفوق القصة على غيرها من الأفكار، لنقل قناعة لشخص آخر.

فيستخدمها مندوب الشركة لتسويق منتجه، ويستخدمها المدير الفني لتحفيز لاعبي كرة القدم، ويستخدمها المعلم؛ لنقل التجربة لطلابه، ويستخدمها الصحفي في نقل معاناة إنسان ما في العالم؛ بهدف إثارة الآخرين، تجاه ظلم مُعتَم عليه. هي طريقة فنية، بالتواطؤ مع الخيال، تتخطى قدرة الخبر والحقائق في التواصل مع الآخر، بما تخلقه من مساحة مشتركة من الأفكار والعاطفة.

لا نهائية السرد

ومن المثير أن هنالك العديد من القصص يمكن كتابتها، ونقلها حول الحدث الواحد، وهو ما يكفل للسرد الإنساني عدم التوقف، فلو كان الحدث يروى بطريقة وحيدة، فلا طائل من الإخبار عن حدث يتكرر في كل مكان على الأرض، فتموت القصة أخيرًا في حال تكرارها بنفس الرؤية والأدوات. والأكثر إثارة، هو تواجد عدد لا حصر له من القصص، على هامش الحدث الأكبر، لربما لو تم نقلها ستكون أكثر تأثيرًا من الحدث نفسه. مثل أن تقطع يد طفلة في حرب بين جيشين كبيرين.

وتتجلى مكانة القصة بما تقدمه من ذاكرة جماعية لحياة طويلة مضت على هذا الكوكب، ويبقى الإنسان ينهل معرفته من القصص، وكأنه يقف على خزان عميق، يضمن له استمرار التطور في الوجهة نحو المزيد من الإنسانية مستقبلًا. فقصة مثل جلجامش، تعوم دائمًا على واجهة الخزان القصصي، بحيث يُعتقد أنها كتبت بالأمس؛ لترسخ في العالم قيمة الصحبة الأبدية.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com