تمرد
تمرد تمرد
اتجاهات

تمرد

خيرة الشيباني

لطالما رددت أمام طلبتي أن أعظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمؤرخين استنبطوا من ملاحظة اليومِي مفاهيم مجردة بنوْا، من خلالها، أنساقهم الفكرية الأكثر تماسكا وتركيبا..

وكنت قد أشرت، ممن ذكرتُ من كتابات هؤلاء، إلى مؤلف عالم الأنثروبولوجيا الكبير الفرنسي كلود لفي ستروس "النيء والمطبوخ" الذي يؤكد فيه أن الانتقال من النيء إلى المطبوخ لا يمثل فقط تحولا ثقافيا كبيرا من حالة الطبيعة الأولى، بل إن هذا الانتقال من الطبيعي إلى الثقافي يؤسس علاقة الإنسان بالكون، وهذا التعارض بين النيء والمطبوخ يعتبر بنية أساسية في تشكيل حضارة ما..

وقد أبدعت الحضارة العربية الإسلامية في فن الطبيخ كما أبدعت في فن الشعر والعمارة وفنون الوشي والموسيقى، وليس أدل على ذلك من كتب الطبيخ التي تركها لنا المؤرخون والأدباء والفقهاء وحتى الشعراء والفلاسفة إثر ما عرفه العرب من ترف وتفنن في تجميل حياتهم وبلوغ أطايبها ولذائذها، وما توصلوا إليه من فتوحات في علوم الطب وغيرها من العلوم..

ولنستحضر هنا مما ازدهر من مؤلفات العصر العباسي والعصور التي تلته "كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية والمأكولات وطيبات الأطعمة والمصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب"، الذي قيل إن ابن سيار الوراق، قد وضعه بطلب من سيف الدولة الحمداني، واحتوى على أكثر من 600 وصفة، و"كتاب الطبيخ" الشهير للبغدادي، ومثلُه شعرا لإبراهيم بن المهدي وكتاب "الأشربة" للفيلسوف ابن مسكويه، و"أطعمة المرضى" للرازي، وما جاء في "المستطرف" للأبشهي، وفي "العقد الفريد" لابن عبد ربه من فصول عن أصناف الطعام وآدابه وآداب الضيافة.

وقد قامت هذه المؤلفات على ثنائيات مثل الحلال والحرام والحاجة واللذة والنافع والضار والحار والبارد والرطب والجاف والحلو والحامض إلى غير ذلك من المقولات التي تجعل هذه المصنفات تتجاوز مجرد الوصف والتصنيف إلى وضع أنظمة معرفية شديدة الدقة والتعقيد والتركيب.

شخصيًا، ورثت هذا الشغف بالطبخ والطبيخ عن أجدادي العرب، وإن لم أجعل لا من الطب ولا من الفقه ولا من دراسة الحضارة اختصاصا، كما ورثته عن والدتي صفية بنت محمد الدبار، رحمها الله، فقد كانت روائح الأطعمة التي تطبخها تفوح في كل شوارع حينا، وقد أضفت إلى ما تعلمته منها تجارب من الشرق والغرب، معتبرة أن الطبخ فنا من أرقى الفنون التي يمكن أن نبدع فيها كما نبدع في رسم لوحة أو كتابة قصيدة.

في غمرة هذا الشغف وما يوفره لي من استحسان ومديح الأهل والأصدقاء، كنت أنسى الخطاب النسوي حول توزيع الأدوار القسري والتقليدي بين المرأة والرجل، وكل المقولات التحررية الأخرى التي تطالب بإعادة هندسة الأدوار الجندرية، وتطوير العقليات وإعداد المجتمع لكسر الصورة النمطية لهذه الأدوار داخل البيت وخارجه، وقبول التغيير الحادث في مجتمعاتنا كأمر واقع بعد خروج المرأة إلى العمل وتوليها وظائف ومناصب كانت مقصورة على الرجال، ويعلم الله كم تحمست لهذه الخطابات وكم أسهمت فيها كتابة وترويجا، ولكن هذه الخطابات والمواقف كانت تغيب عن ذهني وأنا أستمتع بدخول "مملكة المرأة" التي لم يفرض عليّ دخولها في الواقع لا أبٌ ولا زوج.

اليوم شعرت أن هذا الشغف قد تبدد تماما، وقررت أن أتخلى عن هذه المملكة وعن تاجها ونياشينها وسلطتها وعن خطب المديح التي أسمعها، إثر تناول الوجبات الشهية والمميزة، ليس فقط لأنه يوجد بالثلاجة ما يكفي لنصب موائد ليومين أو ثلاثة، أو لأن المطبخ السوري القريب من بيتي كفيل بتوفير ما أحتاجه من شهي الطعام، أو لأن هذا التمرد على القيام بالواجب اليومي عودة للوعي، على طريقة توفيق الحكيم وبداية لإعادة ضبط توزيع الأدوار، وأعترف أننا لا نعمل بالنظام التقليدي القسري الخاص بهندسة الأدوار داخل أسرتي، أو أن هذا الموقف المتمرد يمثل ثورة متأخرة في مثل هذا العمر..

وأنا التي رفعت راية العصيان منذ الصغر في وجه القبيلة والأسرة ثم في وجه القبح والظلم في العالم وضد روتين الوظائف والمهن التي عملت بها مع كل الخسائر والآلام التي لحقتني جراء هذا التمرد، وإن كنت حظيت بأشياء جميلة بفضله، أو بسبب أنني اخترت أن لا أمشي في أي طريق وأنا مُطفأة العينين، وقد خبا ذلك الشغف في القلب وانطفأت تلك الشعلة التي تبقيني على قيد الحياة و تمنحها المعنى.

تمرد على الطبخ والمطبخ؟

فليكن.. فبهجة التمرد هي البهجة الوحيدة الباقية في عالم لم يعد فيه للأحلام أجنحةٌ حتى تطير..

التالي