ذات كباب مع الأستاذ صباح فخري (1 من 3)
ذات كباب مع الأستاذ صباح فخري (1 من 3) ذات كباب مع الأستاذ صباح فخري (1 من 3)
اتجاهات

ذات كباب مع الأستاذ صباح فخري (1 من 3)

بلال فضل

بلال فضل

"ومن الذي لا يحب صباح فخري؟".

هكذا قلت لأستاذي الكاتب الكبير محمود عوض حين سألني ما إذا كنت أحب صباح فخري، ولم يكن ذلك سؤاله الأول، فقد سألني قبلها ما إذا كنت أعرف مطرباً سورياً اسمه صباح فخري، لأنه في تلك الأيام من صيف عام 1998 لم يكن معروفاً في مصر بالقدر الذي يستحقه، ولم تكن حفلاته في دار الأوبرا أصبحت من الحفلات الأكثر مبيعاً وازدحاماً بجمهوره المتذوق للطرب.

بعكس الكثيرين من أبناء جيلي، لم أكن أعرف وأحب صباح فخري فقط، بل كنت أيضاً أعرف وأحب المنشدين السوريين العظام حسن حفار وصبري مدلل وأديب الدايخ، وكانت الصدفة وحدها وراء معرفتي بهم، لأن أقرب أصدقاء طفولتي ومراهقتي كان سورياً تعرفت بفضل عائلته الذوّاقة والسمّيعة على روعة الزعتر بزيت الزيتون والجبنة الشنكليش والنقانق وعذوبة تلك الأصوات التي لم أكن أتصور أنني سأحظى بصحبة أعظمها على العشاء دون سعي مني ولا تخطيط.

لم يقل لي الأستاذ محمود إنني سألتقي بصباح فخري في تلك الليلة المفترجة، بل قال إنه سيستضيف بعض السمّيعة المحبين لفنه، لكنه أضاف قائلاً "يا ريت تخفف شوية في الغداء عشان هنتعشى سوا"، فاستغربت لأنه لم يسألني كالعادة عما أحب أن آكله على العشاء، وعن القدر الذي سآكله لكي يعمل حسابه حين يطلب الأكل، وهو سؤال لم يكن وراءه بُخل أو حِرص، بل انضباطه الشديد كواحد من العزاب الأبديين الذين لا يحبون أن يظل في البيت أكل زائد يغوي الصراصير والفئران.

حين وصلت إلى منزل الأستاذ محمود في الموعد وجدت لديه صديقيه الحميمين الكاتب الصحفي سعد هجرس والأستاذ عبد الملك خليل مراسل صحيفة (الأهرام) في موسكو لعقود، ووجدت على المائدة القريبة كميات غير معتادة من الكباب والكفتة والطّرْب والسلطات المشكّلة، وهي كميات كانت تعني أن الضيف القادم يفوقنا أهمية وغلاوة لدى الأستاذ محمود الذي كانت دعوته لك على الغداء أو العشاء تعني أنك قد ارتقيت مرتقى صعباً في صداقته..

فما بالك حين يدعوك على عشوة كهذه كانت تمثل بالنسبة لي فرصة سعيدة، أنا الصحفي المفلس الذي كان يعيش يومها على باب الله ولا يرى الكباب إلا في الولائم التي يراها في الأفلام، لأنه في الحقيقة لا يُدعى في الغالب الأعمّ إلا إلى ولائم "أورديحي" يقيمها أصدقاؤه المفلسون، وحتى الكفتة التي كان يمكن أن يستطيع إليها سبيلاً بسبب رخص سعرها ومكوناتها، لم يكن لها أدنى علاقة بتلك الكفتة الفخيمة القادمة من كباب الجمهورية بالزمالك الذي تعرف عليه الأستاذ محمود عبر صديقه عبد الحليم حافظ، وهي معلومة كانت تكفي للمزيد من تقدير الكباب والكبابجي.

حين دق جرس الباب وذهب الأستاذ محمود لفتحه، انبعث بعدها شدو صوت جميل، فعرفنا أن الأستاذ صباح فخري هو الضيف المنتظر، وأن سر بحبحة الأستاذ محمود في شراء الكباب، هو عشق الأستاذ صباح له، لكنه كان كما قال لنا في بيان افتتاحي للعشاء، يفضل أن يأكله "سِكّ" دون خبز ولا طحينة ولا سلطات متبلة، لأن التوابل تؤثر على جودة الأحبال الصوتية، كما أنه يفضل الكفتة الحلبية على الكفتة المصرية، ويفضل الطّرَب على الطّرْب لأن به دهوناً أكثر من اللازم..

وبالطبع لم يكن ممكناً بعد تلك المعلومات التفصيلية أن نزاحمه في الكباب، ولذلك تركناه له عن طيب خاطر، أو لكي أكون دقيقاً، تركته له عن بعض من طيب الخاطر، لأن صحة الأستاذين سعد وعبد الملك لم تكن تساعدهما على الإثقال في العشاء، فضلاً عن انشغالهما في نقاش جاد عن تداعيات سقوط الاتحاد السوفيتي على اليسار في العالم العربي.

حين حمي وطيس النقاش قرر صباح فخري أن يهدئ منه بإطلاق همهمات ودندنات جاءت بمثابة بيان افتتاحي جديد يذكر بأهمية البعد عن وجع دماغ السياسة في تلك السهرة، وهو ما كان بدا فور وصوله، حين قال للأستاذ محمود إنه يحب أن يزوره كلما جاء إلى القاهرة، لكنه يتمنى عليه أن يغير مكان سكنه الذي يقع في العمارة ذاتها التي تحتل السفارة الإسرائيلية إحدى شققها لأنه يتضايق من إصرار الحرس على تفتيشه..

وحين قال سعد هجرس ممازحاً إنها ستكون مشكلة كبيرة لو قام أحد بتصويره وهو يدخل إلى العمارة وربما استغل أحد زملائه في مجلس الشعب الصورة وقام بتقديم استجواب تحت قبة المجلس بخصوصها، فلم يتقبل الأستاذ صباح الدعابة ولو حتى بهزة رأس، واكتفى بازدراد قطعة كباب، فأدركت أنه لن يكون من الحكمة أن يفتح أحد معه كلاماً لا علاقة له بالغناء.

كنت قلت قبلها للأستاذ محمود إنني أعشق أداء صباح فخري الفريد من نوعه لأغنية سيد درويش (سيبوني يا ناس)، حتى إنني كنت أغنيها في حفلات الجامعة، ولم أكن أعرف أنه سيدبّسني ويطلب مني أن أغنيها أمام سلطان الطرب نفسه..

وقبل أن أتحجّج كما يفعل المطربون ضعاف الصوت بأن عندي "دور برد"، بدا من ملامح الأستاذ صباح المتجهمة أنه لا يحب أن يزاحمه أحد في الكباب أو الغناء، مع أنني كنت أعقل من أن أفعل ذلك، بل وبدا أيضاً أنه لا يحب أن تأتي سيرة مطربين غيره..

وحين قررت أن أتودد إليه بالحديث عن محبتي لحسن حفار وصبري مدلل وأديب الدايخ، لم يجاملني ولو بابتسامة، واكتفى بأن يسألني عن أكثر أغنية أحبها له، ولكي أبهره وأكشف له عن سعة اطلاعي، اخترت أغنية (خيالك في الفؤاد والعيونِ)، التي لم أكن أعلم أنها من ألحان محمد محسن الذي لحّن عدداً من القصائد البديعة لفيروز، ولا أنها جزء من أغنيات مسلسل (الوادي الكبير) الذي قدمه صباح فخري عام 1974 بالاشتراك مع وردة الجزائرية، فلم يكن المسلسل عُرِض في مصر ولم يكن هناك (يوتيوب) لكي نجد طريقنا إليه..

ولم يكن ممكناً بشكل عام أن أستمع إلى الكثير من أغاني صباح فخري البديعة لولا جدعنة أصدقائي السمّيعة من الذين لا يكنزون الكاسيتات والسيديهات وينفقونها في سبيل الفن.

أبهجت إجابتي الأستاذ صباح فأعطى الكباب هدنة، وأنعم علينا بغناء مقطع من قصيدة (طاف الهوى بعباد الله كلهم.. حتى إذا ما مر بي من بينهم وقفا) والتي غناها في مسلسل (الوادي الكبير)، وكانت تلك فرصة لا تعوض لكي أستمع إلى صوته الجميل من أقرب مسافة ممكنة، وأكتشف أنه لا يقل حلاوة وصفاءً عن أجمل التسجيلات التي سمعتها له، وأن سنواته الخمس والستين وقتها لم تؤثر في قوة صوته على الإطلاق، وأن ما كان يُنشر عن تحطيمه للأرقام القياسية بالغناء لمدة عشر ساعات وأكثر، لم يكن فيه أدنى مبالغة..

ولكن، اتضح لي أن الغناء يُجلي مزاجه ويجعله أصفى وأروق، ولذلك لم يتوقف عن الغناء والدندنة طيلة السهرة إلا لكي يسأل الأستاذ محمود عن بعض تفاصيل صداقته الوثيقة بأم كلثوم وعبد الوهاب، لتشجعه تلك الحكايات التي لم يبخل بها الأستاذ محمود على غناء مقطع من (الأمل) لأم كلثوم و(يا مسافر وحدك) لعبد الوهاب، فأصرخ مع ندامى السهرة طالبين المزيد، ومع أنني لم أسامح الظروف لأنها لم تساعدني على تسجيل أدائه البديع في تلك الليلة، إلا أنني من فرط انتشائي بصوته البديع سامحت الأستاذ صباح من أعماق قلبي على كل قطعة كباب كان نِفسي فيها.

...

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.

التالي