"أميركا ترامب" واستراتيجية الأمن القومي
"أميركا ترامب" واستراتيجية الأمن القومي "أميركا ترامب" واستراتيجية الأمن القومي
اتجاهات

"أميركا ترامب" واستراتيجية الأمن القومي

موسى برهومة

موسى برهومة

لم تفعل دلالات تصويت جميع الدول الـ14 في مجلس الأمن ضد الولايات المتحدة، فيما خص القدس، مفعولها، في ما يبدو. لم يجتمع قادة السياسة والاستراتيجيا في واشنطن ليحدقوا في عمق المأزق الذي غرقت في وحله أعظم دولة في العالم. لم يكترث سيد البيت الأبيض دونالد ترامب للأمر، فعطف عليه إعلاناً، مستلاً من تغريدة لمندوبة الولايات المتحدة لدى مجلس الأمن نيكي هايلي، هدّد فيه الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة بقطع «فتات» المساعدات عنها إن هي عارضت إرادة الإدارة الأميركية. إنه منطق الكاوبوي الذي صدّرته هوليوود إلى العالم عن الرجل الأبيض المتفوق والمتوحش والمتغطرس في آن.

وقد عكفت الولايات المتحدة، طوال عقود مضت، على محو تلك الصورة الكريهة التي قدمتها كقاطع طريق يَغير على القرى والآمنين وينهبها ويقتل أطفالها ونساءها وكهولها من دون أن يتغبّر حذاؤه الطويل ذو الرأس المدبّب، وبعد ذلك يركن إلى تلة ويروح يدخن وهو يتأمل الكون المترامي، كأنّ شيئاً لم يكن.

قيل كثير عن رغبة الولايات المتحدة في الانسحاب من مناطق التوترات المكلفة والمهلكة، وقيل أيضاً عن أفكار متصلة بدخول واشنطن على خطوط النزاعات في اللحظة الأخيرة، أي قبل إسدال الستار عليها، وما يكتنفه ذلك من خسائر لدى المتنازعين، وما يضمره من حسّ انتهازي يقضي بقطف الثمار لحظة نضوجها فقط. ولا يتوقف الأمر عند الانسحاب من مناطق التوتر العالي، بل من اتفاقيات عالمية تهم الكوكب الأرضي ومستقبل البشرية والتصدي للاحتباس الحراري، كاتفاقية المناخ التي انسحبت منها أميركا، بعد أن وقعت عليها في كانون أول (ديسمبر) 2015 برفقة جميع دول العالم، باستثناء سورية ونيكاراغوا.

كان مبرّر ترامب للانسحاب أنّ الاتفاقية تضر بالولايات المتحدة، وتعاقبها وتكلفها ملايين فرص العمل. وبغطرسته البلهاء قال: «لقد انتُخبت لأمثّل سكان مدينة بيتسبيرغ (مدينة أميركية) لا سكان باريس». ومثل هذا التصريح لا يصدر عن دولة عاقلة، بل لا يمكنه أن يصدر عن دولة تطمح، كما أفصحت استراتيجيتها الأخيرة، إلى السيطرة على العالم، فمن أراد السيطرة يتعين عليه أن يكون مؤهلاً لها، أخلاقياً ومالياً، فزمن الكاوبوي قد ولى، مع أنّ ترامب وحاشيته لا يعترفان بذلك.

في التقرير الأخير الذي أعلنه ترامب حول حول استراتيجية الأمن القومي الأميركية، بدت النزعة العدوانية فيه ماثلة، لا سيما في ما خصّ تأكيد التقرير: «نحن نواجه قوتين غريمتين هما روسيا والصين الساعيتان إلى النيل من نفوذ أميركا وقيمها وثروتها»، وهو ما ندّدت به بكين وموسكو اللتان انتقدتا «ذهنية الحرب الباردة» و «الطابع الإمبريالي» للوثيقة.

بالعقلية ذاتها، أدار ترامب معركته في اليونيسكو، والمعركة الأخرى الأكثر فظاظة وفظاعة في التاريخ المعاصر متمثلة في إعلان نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، من دون أي إحساس بعواقب هذه الأفعال الطائشة التي لا تعبّر إلا عن عقلية الكاوبوي وذهنيته المفارِقة عالم المدنيّة والعدالة والمشاركة الإنسانيّة، وتحسس آلام الضحايا والمعذبين في العالم.

لا بأس في أن يرفع ترامب شعار «أميركا أولاً» على ما يستبطنه الشعار من أيديولوجية تحشيدية تنتسب إلى مناخات الحرب العالمية الثانية، لكن البأس والبؤس أن يعتقد أنّ في مقدوره التصرف بمفرده في إعادة رسم الخرائط الجغرافية والنفسية للشعوب وأقدارها، وهذا ما سيُمنى فيه بخسائر لا يتوقعها على المدى المستقبلي، خصوصاً عندما يتولّد وعي جمعي لدى البشر يتغذى على كراهية أميركا التي يدير رئيسها الأزمات والتحالفات كما يدير شركة خاصة هدفها الربح الخالص، مهما كانت الأخطار والعواقب!

الحياة

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

التالي