مسرحية "سما تحت الحصار": طموح مسرحي وإنساني
مسرحية "سما تحت الحصار": طموح مسرحي وإنساني مسرحية "سما تحت الحصار": طموح مسرحي وإنساني
مسرح

مسرحية "سما تحت الحصار": طموح مسرحي وإنساني

سماح مغوش

لم يكن وصف الحال هنا لذاته بل لشيء آخر، فثمة رسالة هنا: "ما الذي تفعله الذات الإنسانية المبدعة المحاصرة في انتظارها العجيب؟، وما المسافة بين ما هو ذاتي شخصي هنا وبين ما هو عام وموضوعي!، وهل من فعل غير تربية الأمل كما قال محمود درويش:

"هنا،

عند مُنْحَدَرات التلال،

أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت،

قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،

نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،

وما يفعل العاطلون عن العمل:

نُرَبِّي الأملْ"

من قصيدة حالة حصار لدرويش، إلى المسرحية التي بين أيدينا وأعيننا، التي تستفز حواسنا وتفكيرنا في النص والتمثيل والسنوغرافيا والديكور والإخراج.

انسجمت الرؤية الإخراجية مع حال الحصار نفسه، ففي المكان المحدد، الذي يصير كالسجن، المقيد لحركة الأطراف، فما الذي سيتحرك عوضًا عن الحركة الجسدية غير حركة الذهن بما فيه من ذكريات؟، تصبح زاد وزواد الإنسان المحدد بالمكان الضيق، وسط استلاب الفضاء الطبيعي.

لعل ذلك تفسير نفسيّ، لمن يجد نفسه مقيدًا، فتنشط حواسه وأفكاره وذكرياته وخططه للخلاص وما بعده، ولعل محمود درويش الذي عاش حصار رام الله تحت الاجتياح الإسرائيلي أيضًا قد فسّر الحالة، ولكنه فسرها إبداعيًا حين قال:

"أفكر من دون جدوى:

بماذا يفكر من هو مثلي، هناك

على قمة التل، منذ ثلاثة آلاف عام،

وفي هذه اللحظة العابرة؟

فتوجعني الخاطرة

وتنتعش الذاكرة".

بطلة العرض كاتبة، وهي المؤلفة، وقد وجدت نفسها حبيسة البيت، والحي، في ظل حصار قطاع غزة، فهي أسيرة الخوف والترقب وحالات الرحيل وما يصاحب ذلك من ضغوطات نفسية واجتماعية واقتصادية، وهي أسيرة الكهرباء أيضًا والتي تأتي فقط لوقت محدد، مما يعني العرضة للظلام. وهي سجينة الحالة الفلسطينية المتشظية، فما الذي ستصنعه كاتبة غير أن تكتب.

لكن ما مجال الكتابة هنا في ظل الجمود وقلة الأحداث سوى من قصف الاحتلال؟

الكتابة هنا هي وسيلة انعتاق، كما الذهن، ولو ذهبنا مذهبًا سيكولوجيا، لربما نستطيع أن نفسّر المواضيع التي احتواها نص يوميات الكاتبة سما حسن من غزة التي تم مسرحتها.

إن حشر الجسد في حيّز صغير، في ظل أحداث تبدو كالصورة الثابتة، يثير حالة داخلية، حيث ما يلبث المسجون أن يحاول الانعتاق، ولما لا تسعفه أطرافه وجسده للخروج، فإن شيئًا آخر يبدأ بالحيوية والنشاط، ألا وهو الشعور والفكر، خصوصًا في استعراض ما كان من ذكريات.

لذلك، نستطيع تفسير وجود الذكريات لسببين، الأول وهو السبب الذي ذكرت، أما الثاني، وهو مرتبط عضويًا بالأول، فهو أن تأمل الحال الآن يقود نفسيًا وفكريًا وإنسانيًا إلى ما كان من ماض أسس للحاضر، وما زال يمده بأسباب الحصار.

تبدأ الأحداث من الآن، ثم سرعان ما تعود الكاتبة-بطلة النص، إلى طفولتها في البيت ومدرسة وكالة غوث اللاجئين الفلسطييين "الأنروا"، وطقوس تعليم اللاجئين وإغاثتهم، وقد نحت الكاتبة منحى نقديا ساخرًا، مصورة لهذا الأسى المتوارث. ثم يقطع القصف حديث الذكريات، فتعود إلى الآن، وما تعانيه أسرتها من حياة، خصوصًا مسألة الكهرباء وسيلة الاتصال بعالمها كصحفية وبالنور بشكل عام وما فيه من دلالات تنوير وحياة.

لقد تم تمثيل الذكريات، بأسلوب متتابع باستخدام ما تيسر من ديكور، دخولاً في الشخصية وخروجًا منها.

حالة الحنين-النوستالوجيا هنا، كانت متكئا دراميا قويًا، لتعميق حالة الحصار الآن، بر مقاربتها بما كان، بالرغم من أن الحصار كان موجودًا في الحالتين، لكن الحصار الأخير كان محكمًا!.

أما حركة الممثلين على الخشبة، فقد كانت مشتبكة مع الفضاء المسرحي الذي تم تقسيمه أفقيًا وعموديًا من خلال خيوط بمستويات متعددة الارتفاع، مما يصعب إيجاد مكان يقف فيه الممثل.

لقد تم إنشاء ما يشبه السجن، سجن الجسد، في الفضاء المقزم طولاً وعرضًا وارتفاعًا، والذي لم يفلح في سجن الروح والفكر والشعور والصوت والحروف (التعبير). ومرة أخرى، ومن خلال تأمل أدب السجون في فلسطين، فإن معظم الكتاب في هذا الشأن نشطت حواسهم فسردوا عما كان من ماض، فظهر الحنين في سياق العمل الوطني الذي قاد للاعتقال.

عكس النص حالات المعاناة اليومية، مفسرها بقليل من الذكريات والتاريخ، لكن لم نجد العمق الدرامي المكتمل، ربما بسبب أن النص الممسرح قد اعتمد اليوميات.

في أحد المشاهد، يستشهد فتى، وقد أبدع العرض في تصوير حركته وقت الاستشهاد، كذلك في حديثه الأخير حول ارتباطه بإغاثة أسرته وإسعادها. ولعل هذا المقطع-المشهد كان من أهم المشاهد وأكثرها تأثيرًا، حيث أزعم أن الإبداع هنا اكتمل فنيًا وإنسانيًا؛ إذ نجد أن حالة الفتى الشعورية كانت عميقة وجوديًا، من خلال الالتزام الذاتي تجاه الأسرة حتى الرمق الأخير.

لعل محمود درويش أيضًا يسعفنا هنا:

"هنا، عند مُرْتَفَعات الدُخان، علي دَرَج البيت

لا وَقْتَ للوقت

نفعلُ ما يفعلُ الصاعدون إلي الله:

ننسي الأَلمْ".

بالرغم من الوجع في العرض-النص، إلا أنه لم تكن هناك ضرورة لبعض جرعات الخطاب المباشر، خصوصًا أن المسرحية نحت منحى تجريبيًا ومعاصرًا. في المجمل نزعم أنه عرض طموح، احتاج لروافع في النص كانت محدودة بسبب شكل اليوميات.

دومًا سيكون للذات الإنسانية المبدعة المحاصرة دورها حتى ولو طال الانتظار، فقد زالت المسافة بين ما هو ذاتي شخصي هنا وبين ما هو عام وموضوعي، وثمة ما يمكن فعله غير تربية "الأمل" كما قال محمود درويش، ألا وهو إبقاء الشعور والفكر حيويين، باتجاه الخلاص، فلا خلاص ذاتي بدون الخلاص الجمعي.

مسرحية "سما تحت الحصار"، من إعداد وإخراج ميرنا سخلة، وتمثيل منذر بنورة، ورزق إبراهيم، ومريم الباشا ومن إنتاج مسرح الحارة - بيت جالا

التالي