ما الذي قدّمه نزار قباني للشعر العربي؟
ما الذي قدّمه نزار قباني للشعر العربي؟ ما الذي قدّمه نزار قباني للشعر العربي؟
ثقافة

ما الذي قدّمه نزار قباني للشعر العربي؟

سماح مغوش

لم يفتأ نتاج الشاعر السوري الراحل نزار قباني عن التأثير في المجتمع العربي، بعد تربعه لعقودٍ بين قائمة أبرز المبدعين العرب، وبصمته الواضحة التي تركها في تاريخ الأدب المعاصر.

وعلى الرغم من أنَّ غزليَّات قباني ووصفه الحسِّي للمرأة، نالا نصيباً واسعاً من تقدير الأوساط الثقافيَّة والشعبيَّة، بعد أن تناقلته الألسن، واحتفت به المجامع الثقافيَّة، إلا أنَّ شعره السياسي وتمرُّده ألهم الكثيرين، وبات نقطة أملٍ مضيئةٍ في واقعٍ عربيٍّ قاتمٍ، حيث الظلم والتسلُّط والقمع.

وبالعودة إلى الحقبة التي سطع فيها نجم نزار قباني، نجد أنَّ معظم معاصريه من الأدباء والمفكرين ارتبطوا ارتباطاً وثيقاً بالقضايا الوطنيَّة والقوميَّة.

فكان قباني جامعاً بين السياسة والأدب، بحكم دراسته للحقوق والتحاقه بالسِّلك الدبلوماسي، لتؤثِّر الأوضاع العربيَّة المتردِّية على نتاجه الإبداعي، بل وتطغى عليه في كثيرٍ من المواطن.

وأصدر قباني مجموعته الشعريَّة الأولى "قالت لي السمراء" عام 1944، من مصروفه الشخصي، لتُحدِث ضجَّة في المجتمع السوري -آنذاك- وتطاله أقلام المنتقدين، ممن أسبغوا عليه صفات الفسق والفجور، ما أثَّر في نفس نزار، وغذَّى الحسَّ الثوري في أعماقه.

وتتَّسم القصائد التي نظمها قباني في محبة وطنه، بغنى المشاعر وعمق الانفعالات؛ يقول:

"أنا لبلادي لنجماتها     لغيماتها للشذى للندى".

كما ارتبط الهمُّ القومي بشعر نزار ببساطةٍ وعفويَّةٍ؛ فانتصر لقومه في فلسطين، وبورسعيد، والجزائر، وصوَّر كفاح الفلسطينيِّين ومأساتهم، في مواجهة آلة الحرب والقمع الصهيونيَّة؛ يقول:

"وجاءَ أغرابٌ من الغياب/ من شرقِ أوربا/ ومن غياهبِ السجون/ فأتلفوا الثمار/ وكسَّروا الغصون/ وأشعلوا النيرانَ في بيادرِ النجوم".

وتصدَّى قباني في قصائده لمظاهر الجهل والتخلُّف في العالم العربي، متمرِّداً على الأعراف والموروث الجمعي البالي، ومنتقداً المواطن العربي، الغارق في سلبيته، والذي ينام مجتراً أمجاد الماضي، دون أن يقدم لحاضره ومستقبله شيئاً يُذكر؛ يقول قباني:

"ذلك السِّلُّ الذي يفتكُ بالشرقِ التواشيحُ الطويله/شرقنا المجترُّ تاريخاً وأحلاماً كسوله/ وخرافاتٍ خوالي/ شرقنا الباحثُ عن كلِّ بطوله/ في أبي زيدِ الهلالي".

وشهد شعر نزار نقلة نوعيَّة عقب فجيعته بنكسة حزيران/يونيو 1967، التي هزَّ وقعها الأمَّة العربيَّة، إثر ما خلَّفته من إحباط ومرارة؛ يقول:

"مالحةٌ في فمنا القصائد/ مالحةٌ ظفائرُ النساء/ والليل والأشعارُ والمقاعد/ مالحةٌ أمامنا الأشياء".

واستمر نزار في بثِّ قصائده التي تنضح بالحزن والعدم، ممعناً في جلد الذات العربيَّة، منتقداً النفوس المنكسرة، وانتفاخها الفارغ؛ يقول:

"السِّرُّ في مأساتنا/ صراخُنا أضخمُ من أصواتنا/ وسيفنا أطولُ من قاماتنا".

وفي قصيدة أخرى؛ يقول:

"سقطت غرناطة/ للمرَّة الخمسين من أيدي العرب/ سقط التاريخُ من أيدي العرب/ سقطت أعمدةُ الروحِ/ وأفخاذُ القبيلة/ سقطت كلُّ مواويلِ البطولة/ سقطت إشبيلية/ سقطت أنطاكية/ سقطت حطينُ من غيرِ قتال/ سقطت عمورية".

واهتم قباني في أشعاره بالأسلوب، مستخدماً ألفاظاً ثريَّة ومتنوِّعة، متأثراً بالمكان وحواضر الشرق والغرب، مع ارتباطٍ لصيقٍ بالطبيعة البكر، كما أنَّ نتاجه الأدبي غنيٌّ بالمصطلحات الدينيَّة، والمفردات الروحيَّة، والتناصِّ مع القرآن الكريم، والإرث الثقافي العربي.

كما نلمح ظاهرة الألوان في شعره، لتعكس حالاته النفسيَّة، إذ أجاد اصطفاء الألفاظ المناسبة لمواضيعه، والملائمة للجوِّ النفسي، وتجاوزت ألفاظه المعاني المباشرة، إلى معانٍ أعمق وأبعد؛ وكما يرى أدونيس، في كتابه "زمن الشعر" أنَّ الكلمة في الشعر لا بدَّ لها "من أن تعلو على ذاتها، وأن تزخر بأكثر ممَّا تعد به، وأن تشير إلى أكثر ممَّا تقول". (ص17)

وعلى المستوى البلاغي، تظافرت في شعر نزار التشابيه والاستعارات والمجازات المرسلة، لتقدم نتاجاً فنِّـيَّاً قلَّ نظيره؛ يقول الشاعر في قصيدته "إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار":

"كان لبنانُ لكم مروحةً     تنشرُ الألوانَ والظلَّ الظليلا

كم هربتم من صحاراكم إليه     تطلبون الماءَ والوجه الجميلا

وشربتم من خوابيه نبيذاً     وسمعتم من شواديهِ هديلا".

وكان نزار حريصاً على إرضاء جمهوره في المحافل الشعريَّة، إذ اهتم بموسيقى القصيدة، وبرع في اختيار القوافي والأوزان، بما يتناسب إلى حدٍّ كبير ومضمون القصائد.

لقد تجاوز نتاج نزار الأدبي موضوع الغزل، ليخوض في قضايا أمته السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، ليهزَّ السَّاكن، ويحرِّك الجامد، ويصرخ في وجه الطغاة؛ ويقول "لا" على الملأ في زمنٍ عزَ فيه إبداء الرأي، وطموح التغيير.

التالي