في "الهيكل العظمي للنخلة" للشاعر حسين عودة.. الشعر برسومات سينمائية في "الهيكل العظمي للنخلة" للشاعر حسين عودة.. الشعر برسومات سينمائية
يبحث الشاعر العراقي "حسين عودة"، عن أصوات وحركات وتلميحات الطبيعة، وعلاقتها مع
الإنسان، مقدما ملحمة شعرية عن طبيعة العلاقة بينهما، في مجموعته "الهيكل العظمي للنخلة" الصادرة عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع 2020.
حيث يرتحل الشاعر في ممرات الطبيعة الضيقة، لينقل مشاهد تصف الحركة المستمرة اللاإرادية لمكونات هذا العالم، بطورها الجميل، وكذلك طور زوالها، حينما لا يتبقى منها إلا الأثر، كما ويقوم الشاعر بتمرير الوعي البشري على تلك الحركات، وما يفصلها من صمت يقصر أو يطول، ليستخلص منها لب تجريبها الذاتي، وكذلك تجريبها بالتشارك مع الإنسان.
ولأن المجموعة تبدو كرحلة اكتشاف لأسرار الطبيعة بناظور الشعر، من خلال تكبير الأجسام، وتصغيرها، لأخذ الصورة في مقاييسها المطلوبة شعريا، فإن الشاعر يستخدم في معظم نصوصه ضمير الغائب في الصياغة والنقل، مبتعدا عن طريقة المونولوج الذاتي. ومع ذلك فإن صفات الذات الإنسانية لا تكاد تغادر قصائده، وكذلك المرأة.
ويقدم الشاعر هذا الطرح بطريقة النصوص القصيرة والمائلة للقصر، والتي بلغ عددها 25 نصا، تفصلها عناوين متنوعة التركيب، وتمتد على 64 صفحة من القطع المتوسط.
فيما يستخدم الشاعر توصيفات تدل على التشقق والنهايات والمكونات الخريفية للأشياء. فإنه وبالإضافة إلى تركيبة عنوان المجموعة "الهيكل العظمي للنخلة" داوم على تكرار اللحظة الخاتمة في رحلة الشيء، مثل "جسده الخشن، بقايا عشب ميت، قبر رطب، سفينة تغرق، ابتسامة للوداع"، كأن هذه التركيبات، ألبوم الصور الذي تحتفظ به ذاكرته، يقلب صفحاته أما الأغلفة البلاستيكية عليها، فبمثابة مادة حافظة للمشهد الأسود.
كما ويعتني عودة بالإيقاع الشعري، كأنما الكلمات لديه مرتكزة على جدار متين. ويعمل على ذلك من خلال تنظيم نسق الجمل وأطوالها، وحرفية ختامها، وكذلك تكرار الجملة لإفادة معنى آخر، يصنع الإضافة الفنية للصورة الشعرية.
وفي نصوصه، تبدو الحركة مستمرة من خلال تكرار الأفعال "يحرك... تهتز.. تختفي.. يخرج . يمضي" في نص"قنفذ البصرة". وكلمات تحمل دلالة الصراع المستمر، والصوت، وتنوعات الإعتام والإضاءة، في نصوص أخرى.
لكن "عودة" يعتاد على الكتابة بنفس الثيمة في معظم القصائد، حيث الوصف الآني لحدث مستمر، عبر جمل تصنع استهلال القصيدة، كما أن النهايات لا تأتي بقفزة في جمال المعنى، فتُلغى صدمة الشعر في نهاية النص، حسبما تتطلب قصيدة النثر. بينما يعوض ذلك بالصوت الموسيقي المستمر مع نصه الهادئ، إذ دائما للجملة عنده صوت مصاحب، ما نسميه في لغة الشعر، الإيحاء.
ويتخذ الشعر لدى عودة أسلوبية الوصف السينمائي، دامجا الصورة الصوت والموسيقى والإيقاع الشعري، لعمل قصيدة متعددة الأوجه، على طريقة المكعبات. ويتحقق ذلك حين يكتب في نص"غرفة من زاوية الغياب": "ضوء ساقط على طاولة خشب/ أو بمساحة تشغل أكبر من ذلك/ ذراع تمتد من النافذة/ إلى داخل جسد الغرفة/ فتفعل ما يفعله طعم المسامير/ وهو ينتشر في الهواء/ صورتك على الجدار/ تشبه دائرة رسمها نبي ثم مضى/ أو شرفة على صحراء باردة الألوان".
لا يتوقف الشعر عن البحث في الحس الإنساني أيضا، ويواصل أداء وظيفته السامية، بتكبير الحاسة الإنسانية، أو إبراز اللحظة أمام العين، لتبدو في أهميتها اللائقة. فمن خلال التوصيف الحسي، وتأثر العاطفة بضعف جسد الطفل، واختلال العالم من حوله في حال فقد الأبوين، وكذلك استخدام الأثر البصري، من خلال اللون الأسود، ودمجه في الصور الشعرية، يعمد الشاعر لإظهار قتامة لون الطريق لدى الطفل هنا، بالإضافة إلى ختام القصيدة بلفظة الموت "القبر الرطب".
عن هذا يكتب الشاعر في نص"بالون أسود":
على شكل رائحة دافئة خلف قبر رطب".
لم يستخدم الشاعر "عودة" تراكيب الحرب المتداولة في الشعر العراقي في العقد الأخير، لكنه لخص صوت الحرب المستمرة للإنسان في الحياة طويلا، حيث استخدم اللغة بشكل موارب، للتلميح لآلات القتل البدائية التي يستخدمها المتشددون الراديكاليون، سيوفا، يقطعون بها رؤوس الناس، كما واستخدم كلمات مثل القرود والغابة والماء الأحمر والراية، ليدلل على بشاعة ما يصنعون.
يكتب الشاعر في نص "حديقة الحيوان":
دائمًا ما نرى قردًا يذبح قردا،
أو قردًا يضع أحمر الشفاه،
ليبلل الأرضية الباردة نسبيًا.
إلى الأرض، مثل جوزة لينة.
وترتفع السكين الملوثة كراية
فيما ينقل شعر عودة، المشهد الشاحب، الذي يرثه الإنسان جراء الفقد، النهاية التي لطالما يضع بين خياله وبينها ستارة سوداء، كي لا تكشف شكل جسده من خلفها، لكن المشهد يمر أخيرا، ويصعد إلى المنصة، ويمضي الإنسان بهذه الذاكرة المعطبة، حاملا على كتفيه حزن العالم.
عن هذا يكتب الشاعر في قصيدة "قبر الملح":
الستارة تتثاءب لينزل خيط النمل
على الجدار يسند الكرسي ظهره،
يسند عليه كرسي آخر ظهره، هكذا الفقد.
الشارع الذي تركته قبل قليل،
يرتب ربطة عنقه إلى ساقي امرأة،
ما زال بعض من صدف الماء في شفتيك،
أو ما زال فيك ارتطام الطير في سماء مكعبة".