الإسلام السياسي بين "التعريب" و"التتريك"
الإسلام السياسي بين "التعريب" و"التتريك"الإسلام السياسي بين "التعريب" و"التتريك"

الإسلام السياسي بين "التعريب" و"التتريك"

عريب الرنتاوي

ما كان يعتبر نموذجا قابلاً للاحتذاء طوال أكثر من عشر سنوات، بات اليوم، نسخة غير مزيدة، وغير منقحة، من أنماط وتجارب الحكم التي انتشرت في العالم العربي طيلة سنوات الركود والاستنقاع الطويلة ... ولا أدري إن كان بعض أصدقائنا الأتراك، ما زالوا مستمسكين بنظرتهم “الاستعلائية” للفوارق والفجوات بين السياقين الحضاريين العربي والتركي.

في العاشر من تموز / يوليو 2013، كتبنا في هذه الزاوية بالذات، مقالاً بعنوان: تعريب الإسلام السياسي التركي بدل تتريك الإسلام السياسي العربي، يومها كنّا أقرب للتكهن والتهكم والاستفهام ... منذ ذلك التاريخ، جرت مياه كثيرة في “التجربة الديمقراطية” لتركيا، وبالمناسبة، يثير هذه المصطلح استياءً لدى بعض الأصدقاء الأتراك، باعتبار أن الديمقراطية في تركيا، ليست “تجربة”، بل سياق حضاري مستقر ومستمر، بخلاف ما هو عليه حال معظم الدول العربية.

حكومة العدالة والتنمية، تستعير كثير من الأساليب غير الديمقراطية، التي انتهجتها أنظمة وحكومات عربية لتكريس سلطتها وتفوقها .... تحكم سيطرتها على القضاء وتتبعه للسلطة التنفيذية ... تشن أبشع الحروب على الإعلام والصحافة المستقلة والإنترنت وتحيل البلاد إلى أكبر سجن للصحفيين في العالم، وقد كشفت التشريعات والتسريبات الأخيرة، بعضاً من الفصول المروّعة للعلاقة بين الإعلام والسلطة في أنقرة، ولقد قرأنا عن تدخلات شخصية سافرة لرئيس الحكومة مهددا ومتوعداً صحفا ومحطات تلفزيونية.

حكومة أردوغان، تضع البلاد تحت سيطرة الأمن والاستخبارات، أو تحيلها إلى دولة بوليسية بامتياز ... هذا هو مغزى ومعنى التشريعات والإجراءات الأخيرة، التي نجحت الحكومة التركية في تمريرها بقوة الأغلبية المهيمنة، والتي تحصن الأجهزة الأمنية، وتستبيح المساحات الخاصة المحمية للمواطنين الأتراك، تماما مثلما يحصل في بعض أبشع الديكتاتوريات العربية.

فضيحة الفساد الأكبر في تاريخ تركيا، يُجرى طي صفحاتها بكل الأساليب الملتوية، تماماً مثلما حدث ويحدث في عالمنا العربي ... رئيس الحكومة يسخر قوة الأغلبية البرلمانية لسد كل منافذ التحقيق المستقل في الفضيحة ... التسريبات التي يُجرى نفيها تباعاً، تؤكد تورط الحكومة ورئيسها في بعض فصول الفضيحة ... التسريبات تكشف عمق “المكون المذهبي” في خطاب رئيس الحكومة ومواقفه، خصوصاً حيال الأقلية العلوية الوازنة في بلاده، وما تردد من ألفاظ وعبارات على لسانه، بالكاد تصدر عن “سلفي متشدد” من النوع الذي خبرنا في سوريا والعراق.

آخر حروب “العدالة والتنمية” الدونكيشوتية، تلك التي تستهدف “اليوتيوب” و”الفيسبوك” ... رئيس الحكومة الذي ضاق ذرعاً بمكالماته المسجلة والمنشورة، ارتأى تجفيف وسائل نشرها وتوزيعها، بدل الاعتذار عنها، وإبداء الاستعداد للمثول أمام العدالة، أو ربما “ضبضبة” أوراقه ومغادرة مكتبه إلى تقاعد مريح، كما يحصل في “الديمقراطية المستقرة والمستمرة” التي تضع تركيا نفسها في خانتها، لكنه لا يفعل.

لا قيمة للقانون والقضاء من وجهة نظر أردوغان، القيمة الوحيدة لصناديق الاقتراع، وعندما تحصل على الأغلبية فيها، يصبح من حقك أن تتنكر للقانون والقضاء وأن تعيد صياغتهما على شاكلتك وصورتك، وبما يخدم دورك المهيمن، بما في ذلك تعطيل إجراءات التقاضي، والإفلات من المساءلة والمحاسبة والعقاب، فأنت زعيم حزب الأغلبية، ولا يتعين عليك أن تقلق ... بئس الديمقراطية إن كانت كذلك.

قبل أيام، تردد في وسائل الإعلام التركية، أن رئيس الحكومة (قد) يعمد إلى طلب تغيير دستور حزبه لإتاحة الفرصة له لتولي رئاسة رابعة للحزب والحكومة ... أليس هذا بالضبط، ما فعله معظم الديكتاتوريين العرب في سنوات حكمهم غير الرشيد، كم مرة أقدم فيها الرئيس اليمني علي عبد الله صالح على “تصفير العداد” ليتمكن من تجديد ولاياته المتعاقبة؟... ألم يُجر تعديل الدستور السوري بجرة قلم من أجل تمكين الأسد الابن من خلافة والده الراحل؟

أردوغان الذي وجد صعوبة في تعديل دستور تركيا ونقلها إلى النظام الرئاسي كامل الصلاحيات تمهيداً لانتقاله إلى قصر الرئاسة، توصل إلى شق طريق التفافي حول هذه العقبة: إن كان صعباً نقل الصلاحيات إلى الرئاسة الأولى قبل الانتقال إليها، فدعونا نبقى في الموقع الذي تجتمع فيه شتى الصلاحيات والمسؤوليات: رئاسة الحكومة، وإذا تعذر تعديل دستور الدولة، فلا بأس من تعديل دستور الحزب، طالما أن النتيجة المتحققة ستكون ذاتها.

خلاصة القول: إن تركيا لم تقدم حتى في ذروة صعود العدالة والتنمية النموذج الأفضل للديمقراطية، لكنها قدمت أفضل محاولة للمصالحة بين الإسلام السياسي والديمقراطية ... أما اليوم، فإن هذا “النموذج” يكاد ينهار بسبب نجاح الحزب في تقليم أظافر خصومه ومجادليه، وإضعاف مؤسسات الدولة والمجتمع العلمانية والإجهاز على استقلاليتها، ما يؤكد حقيقة أن أكثر طبعات “الإسلام السياسي” حداثة ومدنية، قابلة للانتكاس والتراجع إلى خطاب مذهبي وسلفي أحياناً، إن لم تجد على الأرض، قوى معادلة لها في النفوذ والانتشار، قادرة على لجم شهيتها المفتوحة للهيمنة والاستحواذ و”التمكين”، بدلالة اتجاه الإسلام السياسي التركي إلى نوع من “التعريب”، وهو الذي كان يتطلع إلى “تتريك” الإسلام السياسي العربي.

لكن مع ذلك، هناك أخبار جيدة تأتي من تركيا، عن “مقاومة” القوى المدنية والعلمانية والديمقراطية التركية لنزعات الهيمنة الأردوغانية، تدفع للتفاؤل، بل وتشكل النصف الملآن من كأس الماء، مع علمنا بأن معركة هذه القوى ما زالت صعبة وطويلة، وقد تحتاج لأكثر من دورة انتخابية قادمة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com