الشعبويون قادمون
الشعبويون قادمونالشعبويون قادمون

الشعبويون قادمون

عبدالحميد الأنصاري

تعاظم شعبية الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا وأميركا، ويتصاعد نجمها يوماً بعد آخر، وما يجمعها أنها جميعاً تعادي الآخر: سواء الآخر المقيم أو الآخر المهاجر واللاجئ، والزعماء الشعبويون جميعاً، يتبنون خطاباً تحريضياً واحداً: استثارة الغرائز الأولية، الخوف والفزع والكراهية لدى الجماهير ضد الأجانب من غير الأصول الأوروبية، وهي جماهير محبطة أصلاً من الأوضاع الاقتصادية والبطالة أو مهمشة اجتماعياً أو ساخطة على سياسات حكوماتها تجاه المهاجرين والإرهاب، بحجتين: الأولى أن الأجانب هم المسؤولون عن مشاكلهم الأمنية والاقتصادية، والثانية أن الهوية الوطنية في خطر من قبل الأقليات المقيمة والمهاجرين واللاجئين. ومن هنا تتصاعد صيحات الشعبويين في مظاهرات صاخبة تحمل يافطات عنصرية: فرنسا للفرنسيين، ألمانيا للألمان، بولندا للبولنديين.. إلخ. الخطباء الشعبويون، ديماغوجيون، مهيجون، مضللون -عندنا وعندهم- لكنهم يُحسنون التلاعب بالمشاعر الوطنية والقومية، بإثارة مشاعر الخوف من الآخر لدى الجماهير، هذا من جانب، واستغلال الأزمات الاقتصادية والأمنية وتحميل مسؤوليتها للأقليات والمهاجرين، وهذا جانب ثان، وإيهام الجماهير بأن لديهم الحلول.

ظهرت الشعبوية في ثلاثينيات القرن الماضي في العديد من دول العالم، وأنتجت الفاشية والنازية في أوروبا، والحكام الديكتاتوريين في أميركا الجنوبية والاتحاد السوفييتي، وامتدت إلى العالم العربي لاحقاً في ما بعد، لتنتج زعماء شعبويين في دول عربية مركزية تبنت سياسات شعبوية أدت إلى كوارث فادحة، ما زلنا نعاني منها. وعلى مر التاريخ البشري كانت الشعبوية أداة للحكم الاستبدادي، لكل مغامر فاشل من الحكام الديكتاتوريين يدّعي التفويض الشعبي وأنه القائد الملهم، فيدوس البرلمان ويتجاوز الأحزاب السياسية والمؤسسات الدستورية، ويقمع الحريات وينكل بالمعارضين. تاريخ الشعبوية تاريخ من النتائج الكارثية، ليس على أوطانها فحسب، بل على العالم كله، وهذا ما تجسد في الحرب العالمية الثانية ونتائجها المدمرة للعالم.

لكن أوروبا وعت الدروس الباهظة، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، استطاعت الأحزاب الليبرالية: اليسار الوسطي واليمين المعتدل، في تزاوج بين الديمقراطية والاشتراكية، تحجيم الشعبويين الفوضويين وتهميشهم سبعة عقود، لكن تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية منذ 2008، التي لم تتعافَ منها أوروبا بعد، والطوفان البشري المتدفق إلى أوروبا من بلاد الاضطرابات والمجاعات، وتداعياتها الاجتماعية، وتصاعد الأعمال الإرهابية في قلب أوروبا، وارتفاع معدلات البطالة فيها، وكذلك فشل الحكومات الغربية في تقليص الفوارق الاجتماعية بين الطبقات الغنية والفقيرة، إضافة إلى انحسار الطبقات الوسطى المنتجة للقادة والنخب السياسية والإعلامية والثقافية الموجِّهة للرأي العام.. كل هذه العوامل تضافرت لتمهد لصعود الموجات الشعبوية في مجتمعات أوروبا وأميركا، وكان من ثمراتها طلائع القادة الشعبويين: الرئيس ترامب، والمرشح اليميني للرئاسة الفرنسية (فيون)، ووصول بعض الشخصيات والرموز الشعبوية إلى مناصب قيادية، ومشاركة أحزاب شعبوية في بعض الحكومات الأوروبية أو حصولها على المرتبة الثانية في الأصوات الانتخابية، وحتى في ألمانيا (قلعة الصمود الأوروبي أمام الشعبوية) حقق «حزب البديل لألمانيا» نجاحات مفاجئة في انتخابات بعض الولايات، وكانت أولى إرهاصات المد الشعبوي: الخروج البريطاني (المتعسر)، والرفض الشعبوي لخطة رينزي للإصلاح الاقتصادي في إيطاليا.. لكن الأخطر من كل ما سبق هو أن بعض الأحزاب الديمقراطية، وبخاصة اليمين المعتدل، بدأت تتبنى طروحات الشعبويين في قضايا مثل: المهاجرين، والحلول الأمنية بحجة سحب البساط من تحت أقدام الشعبويين. أوروبا اليوم في زمن طغيان الشعبوية، لذلك فمن المتوقع أن يصل بعض رموزهم إلى الرئاسة في عدد من الدول الأوروبية السنة المقبلة.

وأخيراً، يبقى تساؤل كبير: الشعبويون، إذ يعادون الأجانب، فإنهم أيضاً يعادون الاتحاد الأوروبي، ويحمِّلونه مسؤولية تدني مستوى المعيشة وتفاقم الفوارق وتزايد الهجرة، لذلك يسعون إلى تفكيكه عبر الاستفتاءات الشعبية، لاسترجاع السيادة الوطنية.. فإلى أي مدى يبقى البناء الأوروبي، الذي يعد نموذجاً للتكامل الإقليمي، محصَّناً أمام التفكيك؟

يونكر، رئيس المفوضية، يحذر من تقلص ثقل أوروبا الاقتصادي والسكاني، فهل ينجح الأوروبيون في مواجهة التحدي؟

الاتحاد

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com