عن فائض الذكورة (وخوائها) في قيمنا
عن فائض الذكورة (وخوائها) في قيمناعن فائض الذكورة (وخوائها) في قيمنا

عن فائض الذكورة (وخوائها) في قيمنا

ليس عادياً أن يغازل رجل محبوبته فيصفها، على سبيل مدحها، بأنها مثل «الطلقة الروسية»، إن لم تقتل من يتلقاها فهي تصيبه بالشلل لا محالة، أو آخر يطالب السماء بأن تمطر نساء «سيول سيول» ليكيد ابنة الجيران المتعجرفة.

وليس عادياً كذلك، أن يهاتر رجل امرأة ويطالبها، في سياق جذبها اليه وبذل الجهود لإقناعها بحبه، ألا تدعي العفة وتزعم انها قد تكتفي منه بقبلة بريئة وهي التي عرفت رجلاً قبله. ففي افصاح صريح ومبتذل للنيات الجنسية، المعلن منها والمضمر، يخبرنا هو، الرجل نفسه، أن محبوبته المتمنعة أرملة، وعليه فلا مانع من دعوتها الى أن تستعيض به عن زوجها الراحل.

ذلك نموذج بسيط من أغانٍ شعبية رائجة كثيراً في اوساط متنوعة وفئات اجتماعية مختلفة، فتسمعها في الاعراس لكون ايقاعها راقصاً في معظـــمه، وفـــي وسائل النقل المشترك القادمة من المناطـــق، كمـــا في سيارات الشباب الذين يجوبون الطرقات مساء بحثاً عن «طلقة روسية» تصيبهم.

صحيح ان استعارة قاموس القوة ومعاني الرجولة والشهامة والفروسية ليست جديدة في الثقافة الشعبية، لكنها اليوم تستقي مزيداً من العنف والعنجهية والذكورة بمعناها الفظ، من سياقات مختلفة اقتصادية وأمنية وسياسية، وتترجمه في اليوميات عبر تفاصيل صغيرة تنتج سياقاً عاماً بالتراكم. هكذا يصبح مثلاً مقبولاً ان يصور اعلان تلفزيوني لمشروب طاقة، شاباً في غرفة فندق رخيص يستقبل في سريره اربع شابات على التوالي ليخرج بعدها غانماً ظافراً بما أنجز، رافضاً عرضاً خامساً... من عجوز هذه المرة. وبغض النظر عن «تفاصيل» رسائل كثيرة تطاول شريحة مستهلكي هذا النوع من المشروبات، أي المراهقين والشباب، من نوع تشجيع علاقات تقارب الدعارة، وتسليع المرأة، والسخرية من التقدم بالعمر... الخ. يبقى أن ما يرسخ في الذهن بطولة رجل أقام 4 علاقات جنسية متتالية.

وبعكس ما يقال من أن انحطاط الفن او هبوطه يسحب معه الذائقة العامة الى درك ما كانت لتبلغه بمفردها، فإن المعاني المضمرة اليوم في الفنون الشعبية عامة، من أغان وإعلانات وغرافيتي ولافتات سياسية، ليست في الواقع إلا انعكاساً دقيقاً لسلّم أخلاقيات ومنظومة قيم جديدة باتت تشيع وترسخ فينا، شاملة معها أدبيات تعامل الأفراد في ما بينهم، وفي الاماكن العامة، واللغة السياسية وانتظارات الجمهور من قادته.

وتعتبر قيادة السيارة مثلاً، مسرحاً آخر لاختبار تلك القيم الذكورية الفائضة، وهي للمفارقة لا تقتصر على السائقين الذكور. فالنساء يسعين أيضاً (في لبنان على الاقل) الى اثبات قدراتهن التنافسية في القيادة عبر اقتباس وضعيات سائقي سيارات الأجرة، واعتماد التفافات مرورية ممنوعة، وتبني لغة عدائية واستعارات جنسية فظة.

وفي بناء علاقات القوة وتحديد حيز السلطات، ليست النساء ضحايا بالمطلق كما قد يتبادر الى الأذهان أو كما قد تصور بعض الادبيات النسوية. فهن مشاركات وفاعلات في رسم تلك القيم وترسيخها، ومطالبة الرجل بها الى حد بعيد. كأنما الواحدة منهن تقول: كلما كان هو رجلاً، كنت أنا أنثى.

هكذا مثلاً في الانتخابات التشريعية، يصب الصوت النسائي في صناديق تيار سياسي معين لا لبرنامج محدد أو وعود انتخابية بعينها، وانما لمجرد اعتبار المرشح/ الزعيم/ القائد «رجلاً بكل معنى الكلمة». وفي سياق التنافس السياسي، ترفع لافتات وصور عملاقة في الأحياء والشوارع تمتدح صاحبها بوصفه «الرجل الرجل»، أو بشيء من الاقتضاب الواثق أحياناً، مجرد «الرجل»، وتستعار القوة أحياناً أخرى في «نظرتك ترعبهم» وغير ذلك من معاني القوة التي لا تجد بالضرورة تصريفها على أرض الواقع.

فثمة ما يشي بأن استعراض البطولات ذلك، ليس إلا مؤشراً على ازمة يعيشها مجتمع متخبط في علاقات الرجال بالنساء أولاً، والمواطنين بالدولة ثانياً. فحين تتقلص الى حد الاختفاء الطبقة الوسطى مع ما تحمله من قيم عامة وأنماط استهلاك وسلوكيات، وتحل محلها مجموعات بشرية يربطها عصب طائفي أو مناطقي أو خوف وجودي ويصبح الذكور فيها «عناصر أمن» أو «مقاتلين» عوضاً عن ان يكونوا منتجين، لا بد من ان تفيض قيم القتال الكامن في داخل كل واحد منهم.

ثمة رثاثة عامة وانهيار لأي وحدة قياس ناظمة لعلاقات الناس في ما بينهم، ولعلاقة الطبقة الحاكــــمة بطـــبقة المحكومين. ويمكن ملاحظتها بدءاً من تخلي نادل المقهى عن لياقات مهنته، وصـــولاً الى الخطاب الاعلامي والسياسي مروراً بمطــرب يجعل «الطلقات الروسية» نغمة رومانسية.

وعليه، لا يعود مستبعداً استعلاء أي كان على أي كان. فمن يكسب الرهان اليومي هو الاعلى صوتاً، أو الاكثر عدائية، أو الاقوى تسلحاً... الخ. بغض النظر عمّا إذا كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً، طالما ان قيماً واحدة تحرك الغرائز.

ربما يمكن اعادة التفكير في حالات عنف واستقواء كثيرة نصادفها يومياً، وأخرى نافرة اثارت جدلاً واسعاً من طفل يغتصب طفلاً إلى أم تساعد رجلاً في تصوير اولادها المذعورين إلى عابر سبيل يتعرض للشتم المجاني.

(الحياة)

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com