مواطنون لا رعايا
مواطنون لا رعايامواطنون لا رعايا

مواطنون لا رعايا

فهمي هويدي
ثم إننى لم أفهم لماذا سلطت الأضواء على انقطاع التيار الكهربائى خلال تلك الساعات، ولم يشر أحد إلى انقطاع المياه. ذلك أننى كنت ضمن ضحايا الانقطاعين، إذ ظلت المياه مقطوعة عن الحى الذى أسكن فيه طوال 15 ساعة متصلة. الأمر الذى يشعر المرء بمهانة مضاعفة، إذ يصبح عاجزا عن حل الإشكال، بعدما نفدت كميات المياه المعدنية من كل بقالات المنطقة، كما أنه يصبح عاجزا عن فهم سبب الانقطاع، خصوصا أن كل هواتف المسئولين عن الحى والمحافظة والوزارة أصيبت بالخرس وامتنعت عن الرد.
وحتى هذه اللحظة لم يتح لسكان الحى أن يعرفوا حقيقة ما جرى. ولا أعرف إن كان التقرير العاجل الذى قدم إلى الرئيس تحدث عن مشكلة المياه المقطوعة فى أحياء ومدن عدة أيضا أم أنه اكتفى بعرض مشكلة انقطاع التيار الكهربائى، التى تسبب خسائر اقتصادية كبيرة، فى حين أن خسائر انقطاع المياه ربما كانت إنسانية بأكثر منها اقتصادية. ذلك فضلا عن أن انقطاع التيار الكهربائى يمس مصالح قوى لها وزنها فى المجتمع، أما انقطاع المياه فيعانى منه عامة الناس الذين لا تكترث السلطة بالإنصات إلى أصواتهم. هناك تفسير آخر خطر لى هو أن تكون السلطة قد اعتبرت أن انقطاع المياه بات أمرا مفروغا منه ومألوفا وما عاد يستحق الذكر.
ثم إنه ربما لا يخلو من فائدة لأنه قد يعد تدريبا لمواجهة احتمالات المستقبل بعد بناء سد النهضة الأثيوبى، الذى من شأنه أن يؤثر على حصة مصر من المياه. وفى كل الأحوال فإننا لن نعدم تهوينا من الأمر يتكفل به بعض المفتين المتعلقين بأذيال السلطة والجاهزين لركوب كل موجة، ممن يذكروننا بأن النصوص الشرعية حلت الإشكال من خلال إباحة «التيمُّم» إذا انقطعت المياه أو شحت، الأمر الذى يبطل حجة الشاكين ويسكت أصوات الناقدين.


لست فى مقام مناقشة الأسباب الفنية أو غير الفنية التى أدت إلى انقطاع الكهرباء أو المياه. ولدى استعداد للقبول بأية أسباب مقنعة تذكر فى هذا الصدد أو ذاك. بالتالى فلست فى وارد انتقاد الانقطاع أيا كانت أسبابه، لكن الذى يهمنى فى المشهد، وما يشعرنى بالاستياء والحزن هو ذلك التجاهل للرأى العام، والتعجل فى إبلاغ الرئيس ثم التمهل والتراخى فى إبلاغ المجتمع. الأمر الذى يسلط الضوء على مشكلة الافتقاد إلى الشفافية التى يعانى منها المجتمع المصرى منذ عدة عقود، ذلك أن قوة السلطة المركزية فى مصر، التى تمتد جذورها إلى عصر الفراعنة، أقنعت البيروقراطية المصرية بأن المهم أن تحاط السلطة علما بما يجرى، لأنها صاحبة الأمر والنهى. أما مجتمع الرعية الذى لا سلطان له، فليس جهة اختصاص معنية بالشأن العام. وطالما أن «الراعى» يعرف ففى ذلك الكفاية، حيث بيده التقرير والتدبير. إذ إنه وحده له حق الإرسال، ودور الرعية لا يتجاوز الامتثال والاستقبال.


ليس فى هذه الصورة أى مبالغة، والقرائن والشواهد التى تؤيدها كثيرة، ولا تقتصر على مسألة انقطاع التيار الكهربائى أو توقف شبكات المياه وحدها. ذلك أن بين أيدينا قائمة طويلة من المشروعات الكبرى التى تؤثر على مستقبل البلد، ولا نعرف من درسها ولا من حدد أولوياتها، ولا من الذى يمكن أن يحاسب على الإنجاز أو الإخفاق فيها. وهذا الذى نقوله عن المشروعات الكبرى يتوازى مع أسئلة أخرى عن موعد الانتخابات التشريعية وتشكيل البرلمان، وعن التعديلات المراد إدخالها على الدستور لتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، وعلى مصير قانون التظاهر، أو مصير الجمعيات الأهلية.
وقبل أيام قليلة كتب أحد أساتذة العلوم السياسية ـ الدكتور مصطفى كامل السيد ـ مقالة فى جريدة «الشروق» (1/9/2014) انتقد فيها التخبط والشفافية فى إدارة الشأن الجامعى لم تعرفه مصر منذ إنشاء أول جامعة حديثة فى عام 1908. وضرب لذلك أمثلة كثيرة بعضها يتعلق بتغيير مواعيد بدء العام الدراسى لأسباب غير معلومة، وبعضها يتعلق بتأجيل تعيين رؤساء سبع جامعات وإلغاء انتخاب العمداء ورؤساء الأقسام....الخ.


من المفارقات أن يحدث ذلك فى أعقاب ثورة قام بها الشعب المصرى احتجاجا على تحكم نظام مبارك الذى صادر إرادة الأمة وعمد إلى تزويرها طوال ثلاثين عاما. وحين رفعت الثورة شعارات العيش والحرية والكرامة الإنسانية، فلم يكن الهدف من وراء ذلك إزاحة سلطة واستبدالها بسلطة أخرى، ولكن الهدف الحقيقى كان رد الاعتبار للشعب بحقوقه التى أهدرت وتطلعاته التى أجهضت.

صحيح أن المجتمع المصرى جرى إضعافه وتدمير قواه المدنية، إلا أن علاج ذلك لا يكون بإيداعه غرفة الإنعاش وتسليم أمره إلى «الراعى» وبطانته، لكنه يكون بتنشيط خلاياه الحية ورفع سقف الحريات والحقوق المتاحة له وفى مقدمتها حق المشاركة. وبذلك يكتسب الخبرة والمناعة والعافية التى تمكنه من طى صفحة الرعية وممارسة حقوق المواطنة.


أرجو أن يضم ما سبق إلى مرافعة الدفاع عن إجراء الانتخابات التشريعية فى موعدها قبل نهاية العام. ذلك أننا بحاجة ملحة إلى جهة منتخبة تمثل المجتمع وتحاسب القائمين عليه. وما لم يحدث ذلك فإننا سنكون قد انتقلنا من دعوى الأخونة إلى قبضة العسكرة، وكأنك يا أبوزيد ما غزيت!

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com