مدن الصيف: محبرة وطوابع بريد
مدن الصيف: محبرة وطوابع بريدمدن الصيف: محبرة وطوابع بريد

مدن الصيف: محبرة وطوابع بريد

يبدو أن حلقات «مدن الصيف» العام الماضي لقيت استحسانا، مما حدا برئيس التحرير للرغبة في أن تستمر هذا الصيف أيضا. واسمحوا لي ببعض الإيضاحات الضرورية. فالرجل الذي يكتب هذه الخواطر الآن كان في سنين الشباب الأولى عندما كان ما صار ذكريات حقيقة، وركضا، وليالي في قطارات أوروبا التي تُعرف محطاتها في البراري والمدن، أما هو فتائه بين أحلامه ومشاعره - لا محطة له.

يعرف من أين جاء ولا يعرف إلى أين هو ذاهب. لا يملك سوى ثمن التذكرة، وأحيانا لا يملكه، وثمن الورق المربع الأزرق، وثمن محبرة زرقاء وطوابع البريد. مسافر يبحث عن مدن ومواضيع، يظن أن الحياة سوف تبقى في انتظاره عند المحطة التالية، وعندما يُدرك ويَستدرك يكون العمر قد خرج من الباب الخلفي، باحثا عن حالم آخر يقنعه بأن الحياة وقفة على ضفة السين، تبحث في صفحته المضاءة عن ذكرى ماضية وقصيدة جديدة. لكن هذه ليست الحياة، هذا وهجها، ويسمّونه، للتعزية بالخسارة، غرور الشباب أو عمى الصِّبا.

سوف تتضمن هذه الحلقات مشاهدات وعودة إلى بعض المدن التي ورد ذكرها الصيف الماضي. وتتضمن قراءات واستعارات تاريخية وأدبية يؤسفني ألا أنسبها كلها إلى أصحابها، إمّا لأنني أضعت المراجع، وإما لأنني، في الثالثة والسبعين، أكتب أيضا من فندق كما كنت في العشرين. فندق العشرين كان من غرفة في حجم حمام لكنه كان شابا. وفندق اليوم مريح وحديث وفيه فطور ولا تنام فيه دون عشاء، لكنّ فيه أيضا حنينا بلا جدوى، وأماني محدودة، ليس لي فيها شيء. هي لأبنائي وأصدقائي وأرض البشر، حيثما يغلب الإنسان على الوحش، والعقل على الخلل، والقلب على الحديد.

لم أكن في حياتي منظما وإداريا، ولا كنت فوضويا. لذلك، لن تخضع هذه الحلقات لترتيب زمني، فيما أنا أعيش معظم حياتي لا أعرف تاريخ الأيام. أيضا أرجو المسامحة على ذلك. إنها مجرد خواطر من ماض كان أبرز معالمه السفر والتنقُّل والترحُّل. ولدت كاتبا وخُيِّل إليّ أن الكتابة سفر. ولدت حالما، واعتقدت خطأ أن الهروب إلى الحلم الجميل أرقى من ملازمة الحقيقة غير الجميلة. سافرت وراء المدن والتاريخ والحكايات وتيه الحدائق العامة وضفاف الأنهر، أينما كانت. من نهر «الأولي» الذي لعبت طفلا فوق حصاه الرمادية، إلى نهر الـ«أوتاوا ريفر» في أوتاوا، حيث حلمت، ذات مرحلة، أن تكون لي شقة على ضفته، لا أحاكي فيها سوى الصمت والعزلة والطيور العائدة.

«الطفولة رحلة صغيرة لا خريطة لها»، قال غراهام غرين. جميعنا نرفض الخروج من طمأنينتها التي لا تتكرر. كل ما يليها وعود. لكن وعودها جميلة وبسيطة. طائرة من ورق أو قفص عصافير أو يد حانية تربت على كتفك. كل ما مضى لا يستعاد ولا يعاد. لكنه يعود عند غيرك. العمر موزع على الجميع، لا توقفه ولا تحتكره. وتبقى لك ذكرى المحطات في قطارات هذه القارات وطائراتها.

(الشرق الأوسط)

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com