تراجيديا المسيحيين العرب
تراجيديا المسيحيين العربتراجيديا المسيحيين العرب

تراجيديا المسيحيين العرب

ما يحدث اليوم في العالم العربي يربك أكثر من باحث تعود على الأنماط التحليلية المهيمنة. لم يعد للضغينة القاتلة وجه واحد. لها تجليات متعددة منها ما يحرم حق الآخر في أن يكون كما شاءت له خياراته الثقافية واللغوية والإثنية.

ما يجري في الموصل يرسم مخططا واضحا لإفراغ المنطقة من مسيحييها الذين سكنوها منذ آلاف السنين زرعوا التآخي بين الأديان وكان نشاطهم الثقافي والسياسي حاسما في تطور وتنور الوطن العربي. للأسف، مظاهر هذا المخطط الخطير ليست جديدة. في السنوات الأخيرة فقد عمد الإرهاب بآلته الضاربة والعمياء إلى التصفية الجسدية للمسيحيين وتهجيرهم، على مرأى العالم. فقد كانت الحرب الأهلية اللبنانية اللحظة الأكبر في هذا التحول، فأظهرت كل الشقاقات الداخلية، وأن ما يبدو مجتمعا حاميا وآمنا، ليس أكثر من أنظمة تصارع الموت الذي نبت فيها منذ أكثر من نصف قرن.

وضعت هذه الحرب المسيحيين في طريق الهجرة القاسي فكانت المنافي الأوروبية والأمريكية والأمريكية اللاتينية عموما، هي من استقبلهم. وأفرغت المنطقة في المحصلة، من مادة رمادية حية وفاعلة ومنفتحة على المستقبل ومنجزاته الثقافية. من منّا لا يعرف دور الشوام المسيحيين في تأسيس الصحافة العربية، وإنجاز القواميس الحديثة، وتطوير المنظومة التربوية والتنبه لضرورة تدريس اللغات الأجنبية؟ وعندما بدأت بلاد السودان في تطبيق الشريعة ومس هذا المشروع القسري وغير المنطقي، مسيحيي الجنوب الذين وجدوا أنفسهم في سودان لم يعودوا يعرفونه، ظهرت علامات الشقاق الخطيرة بشكل معلن وواضح. وكان من نتائجه الوخيمة الحرب الأهلية السودانية والمناداة بانفصال الجنوب عن الشمال، التي انتهت إلى تدمير اللحمة الوطنية الهشة بين أبناء الوطن الواحد.

نعرف اليوم النتائج التي آلت إليها الحالة. في الجزائر كانت فكرة الكفن أو المنفى Le cercueil ou la valise الموجهة ضد المسحيين والأجانب قد مهدت طريق الخروج الجماعي للآلاف في اتجاه أوروبا وبالتحديد فرنسا، فشمل التهجير عددا كبيرا من السكان الأصليين أو الجزائريين من ذوي الأصول الأوروبية الذين اختاروا الجزائر بعد اتفاقيات إيفيان. فجأة تحولت التهديدات إلى عمليات تقتيل ممنهج. بدأ الإرهاب بقتل الأجانب الغربيين ثم تعمقت عمليات التقتيل بجريمة رهبان تبحرين، وكان من نتيجة ذلك أن غادر الآلاف الجزائر بألم شديد على الرغم من أنهم أهل البلاد الأصليون، أو من الذين انغرسوا في تربتها منذ فترة بعيدة. في مصر بدأت حملة التهجير بالاختطافات المنظمة التي فككت فكرة الأمان في الإسكندرية والقاهرة وغيرهما. وقف النظام إزاء هذا الوضع بسلبية واضحة وبتواطؤ مجرم مع الإرهاب لأغراض مضمرة وحسابات سياسوية. فقد الكثيرون أرواحهم في الاغتيالات الفردية والجماعية وتفجير الكنائس التي أظهرت التحقيقات اللاحقة أن النظام نفسه أو بعض أجنحته، لم تكن بعيدة عنه. من هذه الحالات ندرك أن حالة العراق ليست جديدة. منذ الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة أو ما تبقى منها، تفككت البنى الحامية الزارعة للأمان، وغابت كل آلية ضمان حق الأقليات داخل الأرض الواحدة، فكانت حملات التهجير الكبيرة على سلم واسع. الغريب في الأمر أن الغرب كان القوة الوحيدة التي عملت على استيعاب المنفيين من بلدانهم بحسابات إستراتيجية مسبقة أو بغير حسابات، ولم نسمع عن أي بلد عربي أو مسلم اتخذ مبادرة الحماية والاستقبال وحق اللجوء الإنساني لهذه الأقليات الهائمة على وجهها بعد أن فقدت أرضها ومالها وحتى حياتها.

كأنه غير معني بجزء حيوي من شعبه. وهو ما يعني الموت الأكيد في ظل النسيان المنظم و في اتجاه دفع المنطقة العربية نحو المزيد من التفكك والموت والتلاشي باسم إسلام إرهابي شديد التخلف، مُصنّع ومخبري، معد سلفا، ليس إلا الوجه الآخر للضغينة والجريمة. لا أحد يصدق اليوم أن الموصل المتسامحة على مر التاريخ وتلاقي الأديان والأعراق المختلفة، أصبحت مساحة للتهجير المسيحي ضد أقليات متجذرة ومتأصلة، في وطنها ليتمكن القتلة من تجفيف العالم العربي من نسغ حياتي عميق استمر قرونا متتالية في عطاءاته وإضافاته. ليس سلمان الفارسي، حاكم الموصل، المعين من قبل «داعش»، الذي فرض الجزية على كل عائلة، أو المغادرة بترك كل ممتلكاتهم، أو الموت الذي أعقبته هجرة غير مسبوقة نحو إقليم دهوك ومجمل كردستان، إلا علامة من علامات تفكك عميقة كانت تنمو بصمت في الجسد العراقي وانهيارات قادمة ترتسم اليــــوم بوضوح في الأفق.

لا ينفع فيها استنكار جين ساكي، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية لممارسات «داعش» ضد الأقليات الدينية في الموصل، فهذا لا يغير شيئا في معادلة الصراع، ولا الحكام العرب الذين لا يعرفون حتى اللحظة أن الخطر يدق على أبوابهم، وأن نار الحرائق التي ظلوا ينظرون إليها من الأعالي وينشئون الخطابات الثقيلة، شملت اليوم ألبستهم التي على ظهورهم، وأوهامهم ويقينياتهم المريضة بأنهم خارج الدائرة. لا أحد خارج الدائرة، لا القاتل ولا المقتول ولا حتى المتفرج.

*القدس العربي

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com