فوضى السياسة الفلسطينية وفلتانها
فوضى السياسة الفلسطينية وفلتانهافوضى السياسة الفلسطينية وفلتانها

فوضى السياسة الفلسطينية وفلتانها

عريب الرنتاوي

من يتتبع فيض التصريحات الصادرة عن مسؤولين فلسطينيين، يدرك كم هي عميقة ومتأصلة، حالة الفوضى والفلتان السياسي التي تعيشها الساحة الفلسطينية ... لا أحد يحدثك بوجهة نظره، الجميع يتحدث باسم الجميع، فتزداد حيرة وضياعاً على ما أنت فيه أصلاً، من حيرة وضياع.

الرئيس عباس يُصرح تكراراً، وبالأخص أمام مسؤولين إسرائيليين، بأن انسداد أفق المفاوضات، سيقوده إلى “تسليم مفاتيح السلطة” لسلطات الاحتلال ... يخرج كبير المفاوضين الدكتور صائب عريقات، بنفي أي أخبار عن النية لـ “حل السلطة” ... يتناسل المتحدثون من مختلف مدن الضفة الغربية وخارجها، هذا يؤكد نية الحل، ويسوق جملة من المبررات، وذاك ينفي ويسوق جملة أخرى من المبررات، والجميع، ينسب المواقف والمبررات، إلى القيادة الفلسطينية!

نخرج من الضفة الغربية إلى غزة، حيث تجري حوارات المصالحة وحكومة الكفاءات والانتخابات على قدم وساق ... يصرح “كبير المحاورين” الفلسطينيين (على غرار كبير المفاوضين)، بأن الوفد الذي يرأسه لم يأت لغزة للحوار، بل لتنفيذ اتفاقي القاهرة والدوحة، لكأن شيئاً لم يتغير منذ التوقيع عليهما ... أو لكأن رئيس السلطة، لم يذكر “حكاية المفاتيح” تلك ... فتزداد حيرة على حيرة، هل نحن مقبلون على حل السلطة أم على “تجديد شرعيتها” ... هل الرئيس بوارد الاستقالة، كما تتسرب أخبار ومعلومات في حال فشل المفاوضات، أم أنه بصدد خوض غمار انتخابات جديدة؟

يمُطرك الناطقون باسم حماس بوابل من التصريحات “المقاومة”، لكنك وأنت تتابع الجدل حول المصالحة، ترى أن القوم معنيون بموقفهم في “سلطة أوسلو” وانتخاباتها ومجلسها التشريعي وحكومتها وأجهزتها، بأكثر مما هم منشغلون بخيار المقاومة، الذي بدأت تحيط به، شروط كثيرة، تجعل منه خياراً موسمياً، خاضعاً لاعتبار السياسة، بما هي مصلحة فصائلية، أكثر من أي اعتبار آخر.

المواطن الفلسطيني، كما المراقبون للمشهد السياسي الفلسطيني، يزداد تيهاً... وهو لفرط التضارب في تصريحات ومواقف المسؤولين، بات أقل اكتراثاً، بل لم يعد يؤخذ على محمل الجد، كل هذا الركام من المواقف والتصريحات ... وأكثر من ذلك، بات أقل ثقة وإيماناً، بإمكانية الخروج من نفق الانتظار العبثي، والمفاوضات العبثية، والمصالحة العبثية، إلى غير ما هنالك من عبث في عبث.

نفهم أن يُقال، بأننا لسنا بوارد “حل السلطة”، برغم القناعة بفقدانها لوظيفتها الأساسية كنواة للدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف ... ونفهم أن يقال إنه إذا كان لا بد من اطلاق رصاصة الرحمة على سلطة لا سلطة لها، فلتأت من إسرائيل، وليس بيدنا ... ولكن هل من عاقل يظن، بأن إسرائيل ستفعلها ... لماذا تفعلها إسرائيل، ونحن أنفسنا الذين نؤكد صبح مساء، بأن وجود السلطة يجعل الاحتلال مريحاً ومربحاً.

هل ننوي استدراج إسرائيل لحل السلطة، وكيف؟ ... سؤال آخر منطقي ومشروع ... وأحسب أن الإجابة عليه، تبدأ من “وقف التنسيق الأمني” مع الاحتلال ... عندها ستنتهي “الوظيفة الأمنية” للسلطة، وتجد إسرائيل نفسها متورطة في إعادة ممارسة كافة أشكال احتلالها المباشر للأرض الفلسطينية، من دون وسطاء ولا وكلاء ... وفي ظل انسداد أفق التفاوض، وانهيار “حل الدولتين” كما عرفته “عملية السلام”، يصبح التنسيق الأمني، عبئاً على الفلسطينيين (هو كذلك من قبل ومن بعد على أية حال)، ويصبح وقفه، متطلباً لاستئناف المقاومة بأشكالها المختلفة، بما فيها المقاومة الشعبية السلمية.

في هذا السياق، يبدو الخبر “الوحيد” ذو المغزى، الذي “تسرب” في الأيام الأخيرة، هو ذاك الذي تحدث عن اجتماع أمني فلسطيني – إسرائيلي، أبلغ فيه الفلسطينيون الإسرائيليين، بأنهم بصدد تفكيك الأجهزة الأمنية الفلسطينية، إن استمر الحال على هذا المنوال ... خبر جيد إلى الحد الذي يصعب تصديقه ... فالفلسطينيون ليسوا بحاجة لأكثر من “شرطة بلدية ومرور”، طالما أن مشروع انتقال السلطة إلى الدولة، قد انقطع.

إذا كنّا سائرين في هذا الاتجاه، بالفعل لا بالقول فقط ... وإذا كان هذا هو السيناريو الأكثر ترجيحاً بعد انسداد الآفاق، فما حاجتنا لانتخابات رئاسية و”مجلس تشريعي”، ما حاجتنا لاتفاق القاهرة والدوحة ... يمكننا تشكيل حكومة كفاءات انتقالية إلى حين إنضاج خيارات الشعب الفلسطيني المستقبلية، حكومة تسيير أعمال ... أما الجهد الفلسطيني الحقيقي، فلينصب على ما ينفع الناس ويبقى في الأرض ... وما ينفع الناس هنا، هو الشروع في إعادة بناء منظمة التحرير ومؤسسات “الدولة تحت الاحتلال” ... وهذه قد تحتاج لانتخابات من نوع آخر، إن أمكن إجراؤها، أو في الساحات التي يمكن إجراؤها، وبخلاف ذلك، نكون كمن يواصل الاستثمار في مشروع خاسر.

والحقيقة أن ثمة حالة من “الاعتياد” على السلطة ومؤسساتها ومراسمها وامتيازاتها ... ثمة شبكة من المصالح التي نمت وتنامت على جذع السلطة ... ثمة مجتمع أعيد انتاجه على صورة السلطة وهياكلها وحدود كفاحيتها .... ولذلك أجد من الصعوبة بمكان، أن يجد قرار “حل السلطة” تأييداً فصائلياً و”بيروقراطيا” وشعبياً ... وسيظل الداعون للحفاظ عليها والاستمساك بها، قادرين على إيجاد المزيد من المبررات والذرائع الجاهزة لتدعيم ادعاءاتهم.

ليس مطلوباً أن تقدم السلطة على حل ذاتها ... المطلوب، أن ينسحب الفلسطينيون من “الأوهام” التي رافقت قيامها ... المطلوب أن يُعاد النظر بوظائفها، بدءا من وظيفتها الأساس: الأمنية ... المطلوب إعادة “تموضع” السلطة في النظام السياسي، فتعود إلى تعريفها الأول، كسلطة حكم ذاتي محدود، ومحدود هنا، يجب ان تقررها الاحتياجات اليومية للسكان الفلسطينيين، من خدمية وبلدية وتعليمية وصحية، على أن تجري عملية منهجية منظمة، لإعادة هذه المسؤوليات إلى سلطات الاحتلال، والتي تكلف السلطة سنوياً أكثر من مليار دولار.

الاستثمار الفلسطيني الأساسي، يجب أن يتوجه نحو “الممثل الوطني، الشرعي والوحيد” بإعادة بعثه، وتجديد شرعيته، وتوسيع تمثيله وإعادة الدماء إلى عروق علاقاته مع التجمعات الفلسطينية الكبرى في الوطن والشتات ... الاستثمار الرئيس في “الدولة تحت الاحتلال”، باستكمال عضوياتها، وبناء مؤسساتها، في الوطن والشتات ... الاستثمار الرئيس في نهج المصالحة والحوار والوحدة الوطنية، والاستراتيجية الوطنية البديلة، التي لا يبدو أن ثمة خلاف جوهري على خطوطها العريضة بين مختلف المكونات الفلسطينية، بانتظار من يعلق الجرس، ويغادر مربع الانتظار المقيت الذي تضيق به، صدور الفلسطينيين وعقولهم وضمائرهم.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com