ورد لبنان وهشيمه
ورد لبنان وهشيمهورد لبنان وهشيمه

ورد لبنان وهشيمه

ما أن يتصاعد الدخان في سماء بيروت وينزع صوت الانفجار الأطفال ويحوّل أحلامهم إلى كوابيس حتى تعود الفوبيا التي هجعت زمناً في الذاكرة، فاللبنانيون أدرى بهذا الشجن الوطني المزمن، وما من بيت لبناني سلم على مدار عقود من رياح السموم التي عصفت بالأخضر والأخضر أيضاً. لأن لبنان لم يعرف اليباب والتيبس إلا في السياسة. ومن يسقطون تحت وابل النار هم على الأغلب اناس مدنيون من المارة الذين لا ناقة لهم ولا جمل في القافلة المجنونة المحملة بالديناميت والبارود لا بالماء أو القمح.

وفي الانفجار الأخير سقط بائع ورد ربما كان يتهيأ لموسم الحب بعد أسابيع. لكن "فالنتاين" العربي وليس اللبناني فقط لم يعد يعرف الحب. وبدلاً من تقديم الوردة الحمراء يقدم قمصاناً غارقة في الدم، ذلك لأن ثقافة الكراهية والانتقام قادرة على تحويل الابتسامة إلى عويل في أقل من دقيقة واحدة.


وقد سبق لهذه الثقافة الرمادية أن أدت إلى اغتيال راجيف غاندي بباقة ورد ملغومة، لأن سلالة الرعب وأعداء الحياة يدسون السم لا في الدسم فقط بل في خطاب مشحون بالشر، وبائع الورد اللبناني لا ينسق الباقات التي يجمعها ويبيعها بشكل طائفي، فالورد في لبنان لا علاقة له بنوايا من يقطفونه وقد يكون شمالياً أو جنوبياً، سنياً أو شيعياً أو درزياً أو مسيحياً، لكنه ورد فقط ولا تختلف روائحه تبعاً لاختلاف الجهات والايديولوجيات والجهات، وقد يبدو انتقاء بائع ورد من ضحايا تفجير رومانسياً، لكنه في الحقيقة واقعي وربما أكثر من ذلك. فالسوريالية تعرف في المعاجم على أنها مابعد الواقع ومافوقه أيضاً.

عاد الموت إلى لبنان من النوافذ لأنه ما أن يجد البوابات موصدة حتى يثقب الجدران لأنه ليس موتاً طبيعياً بل هو إماتة وحشية تستهدف الحياة كلها قبل أن تستهدف الأحياء، ففي مثل هذه المآتم يسقط شجر وتتساقط طيور مضرجة بدمها وتسقط شرفات ملأى بقوارير الورد.


لكن ما يسقط قبل ذلك كله هو الشعور بالأمان، فالخوف يُفقد الإنسان شهيته للعيش ويدفعه إلى الحافة بحيث يصبح حتى تنفسه صعباً خصوصاً عندما يجهل من يتربص به، ولا يدري متى وأين ستطاله شظية عمياء تودي بحياته أو بحياة أحد من أفراد أسرته، رغم أن مفهوم الأسرة عندما تتعرض الأوطان للانتهاك يتسع ليشمل الناس جميعاً. لأنه ما من كائن يملك بوليصة تأمين ضد الإصابة.


طالما اشتبك ورد لبنان مع هشيمه الذي لم يكن ذات يوم من صُلب تربته وطبيعته، والمحزن أن الهشيم رغم سرعة احتراقه لا يخسر شيئاً، والخاسر على الدوام هو الإنسان البريء الذي لم يكن في برنامج يومه ولو دقيقة واحدة مخصصة لجمع الأشلاء على رصيف وقد يكون من الضحايا امرأة عائدة بالخبز لأبنائها أو أب ينفق على أسرة ويُعلم أبناء ويثق ببلاده.


فهل أخفقت كل المضادات التي تناولها لبنان لعدم تكرار القتل المجاني وتدارك ما تبقى من أخضر في جباله وسهوله وقلوب أطفاله؟
عن جريدة الخليج.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com