ترامب تَغيُّر في شكل الخطاب لا بمضمونه
ترامب تَغيُّر في شكل الخطاب لا بمضمونهترامب تَغيُّر في شكل الخطاب لا بمضمونه

ترامب تَغيُّر في شكل الخطاب لا بمضمونه

من يعوّل على التصريحات التي كان يطلقها دونالد ترامب  خلال حملته الانتخابية، باعتبارها دليلًا على قرب خروج السياسة الأمريكية من حالتي الضعف والتردد اللتين عاشتهما إبَّان عهد الرئيس باراك أوباما، واهمٌ أو حالمٌ، وسينتظر -في كل الأحوال- وقتا طويلا لحدوث مثل هذا التغيير.

فرغم الطابع المتشدّد الذي اتَّسمت بها تلك التصريحات، وتواتر أنباء ترشيحات ترامب لبعض من وصفوا بالمتشددين لشغل الحقائب الأساسية التي ستُعِين الرئيس المنتخب، إلا أن ما ستؤول إليه أمور البيت الأبيض، لن تخرج عن كونها تغييرات في شكل الخطاب، لا في مضمونه.

في الشرق الأوسط، الذي شهد انكفاءً واضحًا، للسياسة الأمريكية وتبدلًا في أولوياتها، لا يبدو أن ترامب قادرٌ ـ حتى لو أراد ـ على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، واستعادة مكانة ودور الولايات المتحدة في رسم وتوجيه السياسات في المنطقة، فالسياسة الأمريكية فَقَدت، بعد ما سُمّي بـ "الربيع العربي" الكثير من مصداقيتها، وذهبت بعيدًا في تعديل خياراتها السياسية وتوجهاتها الإستراتيجية.

لم تعد واشنطن تحسب حسابًا لدول المنطقة، ولم تعد هذه الدول تعوّل على واشنطن، كثيرًا، لحفظ أمن واستقرار الإقليم، بل إنها لم تعد تأمن ألا تكون الإدارة الأمريكية، نفسها، شريكة  بعملية خلط الأوراق الجارية في أكثر من مكان، وعلى أكثر من صعيد بهدف إعادة تشكيل المنطقة وإعادة رسم خرائطها.

مثل هذه السياسة لا ترسمها -في العادة- سياسات عابرة للبيت الأبيض، بل مؤسسات وأجهزة  لها حسابات أبعد من الوعود الانتخابية وأعمق من التصريحات الإعلامية. وكم من الوعود الانتخابية والمواقف الإعلامية تبدَّدت بمجرد أن أصبح مرشح الرئاسة، بالأمس، في مواجهة استحقاق المنصب اليوم.

اتفاق مثل الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما المُنصرفة مع إيران، والذي كان من بين القضايا التي شهدت مُزايدات سياسية بين المرشحة الديمقراطية كلينتون والجمهوري ترامب إبان السباق الرئاسي، لا يستطيع أن يتحكم به اليوم من يجلس على سُدة الرئاسة في البيت الأبيض، ولذلك لن يكون  بمقدور المُعارضين له، والمُتحمّسين لإلغائة أو تعديله -مهما بلغوا  بتشددهم وتحمّسهم- ترجمة معارضتهم وحماسهم إلى فعل حقيقي، حتى لو كانوا في موقع السلطة، وأصحاب القرار فيها.

صداقات أمريكا بدول المنطقة، والتي كانت صمام أمان لاستقرارها، تغيّرت وتبدّلت، وما كنا نعتبرها علاقات تاريخية وتقليدية مُحصَّنة، وغير قابلة للتحلل، والاستبدال، أصبحت هشَّة وضعيفة، ومحل مراجعة، وتُنذر بتحوّل عميق، يُعيد رسم تحالفات الأمس بشكل جديد، وعلى أسس أخرى، ووفق معطيات مختلفة.

لا أحد في المنطقة، يراهن حاليًا على استعادة الولايات المتحدة، لحضورها الذي كان بالأمس، ليصبح أقصى ما يسعى إليه هو احتواء ما يحمله غيابها عن الساحة في الغد.

والواضح -إلى الآن- أن واشنطن غير مهتمة باستعادة نفوذها المفقود، إما لأن ذلك النفوذ استُنفد أو يستنفد أغراضه بعد عقود طويلة من العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول المنطقة، أو لأن كلفة الاحتفاظ بتلك العلاقات، كلفة باهظة لم تعد واشنطن تقوى أو ترغب بدفعها.

دول المنطقة، التي تعاملت مع انكفاء السياسة الأمريكية وترددها خلال الحقبة "الأوبامية" بكثير من الهلع أو خيبة الأمل، لا تملك في ظل المعطيات السياسية التي تملكها إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب، إلا أن تتعامل مع الإدارة الجديدة في واشنطن تعاملًا واقعيًا قائمًا على تكافؤ المصالح، وتبادلها، وعلى القبول بأن هذه المصالح ليست متوافقة دائما، وأن هناك بعض المواقف التي قد تقود إلى صدام وخصام، وأخرى تتقاطع وتتلاقى إلى درجة الوئام.

ترامب، الذي جاء خلافًا لتوقعات معظم المراقبين والمحلّلين، لن يكون قادًرا على تنفيذ كل تهديداته ووعوده الانتخابية. لكنه مع ذلك سيكون مصدر قلق للذين يبنون علاقاتهم  بالبيت الأبيض على أن الرئيس هناك مُطلق الصلاحية في تغيير السياسات الأمريكية وتبديلها، لأنهم  عندها سيكونون فاقدين للحيلة، ويتعاملون مع سيّد البيت الأبيض على أنه قدر محتوم، لا يمكن مواجهته أو الفكاك منه، حتى لو كان في الوقائع والمعطيات غير ذلك، وأنه توجد مساحة واسعة للمناورة والحركة التي تمنع مَن حَمَلته الأقدار إلى سُدَّة الرئاسة، من التعامل مع أصدقائه التقليديين في المنطقة باعتبارهم الخاصرة الرَّخوة أو الحلقة الأضعف والسّور الهابط الذي يمكن القفز من فوقه أو تجاوزه.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com