الدكتاتور عبد الباري عطوان
من أكثر ما يعتز به الصحفي ، أن يكون صانعا للحدث ، لا مخبرا عنه ، أن يكون أمام الكاميرا لا خلفها . لكن الوصول إلى هذا المستوى "دونه قدح القتاد" كما يقولون . خطر ببالي ذلك وأنا أقرأ نبأ استقالة الزميل الاستاذ عبد الباري عطوان من رئاسة القدس العربي والدولي ، فالصدى الواسع الذي تركه قرار الاستقالة وربما الإقالة، أظهر بوضوح المكانه التي حققها الزميل العزيز والتأثير الواسع لتجربته في مختلف الأوساط . هذا التقييم لم يكن بوحي الخبر المفاجيء بل كان ضمن النقاط التي سجلتها وأنا أضع قائمة بالاشخاص والوقائع التي ستكون موضوعا للزاوية الاسبوعية من هذه المدونة و المخصصة للحديث في شؤون وشجون الآعلام التي تستوحي مما في الذاكرة والتجربة من مواقف وحوادث امتدت على مدى اربعة عقود .
تعرفت على الاستاذ عطوان لإول مرة في إحدى قمم مجلس التعاون الخليجية، ولعلها كانت في قطر، يومها لفتت كياسته انتباهي . فقد أبدى إعجابا بموضوع لي في الشرق الاوسط ، حيث كنت أعمل ، وكانت هذه اللفتة ، كفيلة بكشف جانب انساني لم يكن واضحا لي، في اطلالاته التلفزيونية أو مقالاتة ، ثم توالت لقاءاتي به في ابوظبي ودبي حيث كان يتردد عليها زائرا أو مشاركا في مؤتمر أو برنامج تلفزيوني ،كما التقيت به مرارا في مناسبات من الصعب حصرها، . الانطباعات التي سجلتها من حصيلة تلك اللقاءات ، تراوحت بين الاعجاب والاشفاق . أما الاعجاب فهو إعجاب يماثل إعجاب قرائه ومشاهديه خاصة في الاوقات الصعبة التي كنا نحتاج فيها إلى من يقرأ لنا ما بين السطور، وأن يشرح لنا ما وراء الصورة . صحيح أنه كان متحمسا في بعض المواقف والاراء ، وأنه كان غاضبا وساخطا في أحيان كثيرة ، إلا انه في حماسه وغضبه كان يعبر عن شريحة واسعة من الناس، وكنت ارى في ذلك نتيجة طبيعية لتجربة انسانية ومهنية قاسية ومريرة ، ابدع في عرضها في كتاب سيرته الذاتية " وطن من كلمات " .
أما الاشفاق فقد كونته من إحتكاكي به وتواصلي المباشر معه . فالرجل بدا لي عندما رأيته أول مرة يسبح عكس التيار ، ويصر على اللعب مع الكبار ، الذين يفوقونه مواردا وتجربة ودعما . كان يتبنى مواقف وأراء يرى البعض أنها في طور الاحتضار السياسي . كان يدافع عن فلسطين كما كان لو أنه من الرعيل الأول من ابناء فلسطين الذين رفضوا الحلول الوسط ،والتسويات الغامضة ، وتمسكوا بفلسطين ، كل فلسطين . وكنت أشعر دائما أنه وحيد في حرب دينكوشتية كل ما فيها يميل لصالح الفريق الآخر.
وقد حضرت له ندوات وحوارات كانت ُتهيأ له فيها سهام النقد الجارحة ، ولا يتورع بعض من كان يوجهها ، عن نعته بأوصاف قاسية وإتهامه إتهامات تطال ذمته المالية وموارد صحيفتة. وكنت استغرب من إصراره على التأكيد على حياد الصحيفة وعلى استقلال مواردها ، رغم أن منتقديه ليس لديهم الحق في توجيه هذه الاتهامات إذ لايملكون الجرأة على إدعاء الاستقلال والحياد الذي ينتقدون غيابه عند عطوان .
وإذا كانت مقتضيات الموقف الذي وضعتنا فيه استقالة الاستاذ عطوان المفاجئة ، تتطلب التركيز على الايجابيات التي حققها الرجل في مسيرته الطويلة ، فإن المقتضيات المهنية تسمح لنا بالقول ، أن القدس العربي بالرغم مما حققته من نجاح مهني وسمعة طيبة في اوساط الصحافة وبين القراء تظل صحيفة الرجل الواحد . والمفارقة هنا أن عطوان الذي حارب الدكتاتورية وتركيز السلطة في كل حياته، يخرج من صحيفته دون أن تكون وراءه صيغة مؤسسية واضحة تضمن الاستمرار وانتقال الصلاحيات وتحافظ على الانجازات ، فقد ترك الصحيفة دون أن يخلفه من يملأ الفراغ بنفس القوة والحضور . فلا أحد يستطيع أن يتصور القدس العربي بدون عبد الباري عطوان ، فعنده تبدأ الصحيفة، وبفضل جهده الشخصي ومثابرته المستمرة أصبحت ، في مصاف الصحافة العربية الكبيرة وحفر لها . اسما سيظل مرتبطا بإستمرار بأسم مؤسسها حتى لو غاب عنها