التحرش في أماكن العمل والضوابط المفقودة
التحرش في أماكن العمل والضوابط المفقودةالتحرش في أماكن العمل والضوابط المفقودة

التحرش في أماكن العمل والضوابط المفقودة

رفيعة الطالعي

منذ سنوات كانت لدي منحة زمالة في أحد مراكز الأبحاث في واشنطن العاصمة بالولايات المتحدة، ومن بين إجراءات الانتساب وبدء العمل في المؤسسة حصلت أنا وزملائي الباحثون على الكثير من التعليمات والمعلومات التعريفية. منها قواعد الملبس في مكان العمل، وأيضا قواعد لتنظيم العمل يتعلق بعضها بالتحرش الجنسي في أماكن العمل والعقوبات التي يتعرض لها الشخص في حال وقع في المحظور. كانت تلك هي المرة الأولى خلال مدة عملي في القطاعين العام والخاص أحصل فيها على مثل هذه القواعد.

ثم انتقلت بعد ذلك للعمل في مؤسسة إعلامية في الولايات المتحدة يكثر بها العرب، ويبدو للأسف لكثرة حوادث التحرش، اضطرت المؤسسة إلى إجراء اختبار لكل الموظفين والموظفات للتعرف إلى مدى معرفتهم بماهية التحرش ومتى يصبح أي فعل تحرشا. أغلب الذكور رسبوا في هذا الاختبار لأنهم لم يصنفوا كثيرا من التصرفات التي كانوا يقومون بها ضد النساء تحرشا، بل أفعالا عادية والبعض عدها غزلا وإعجابا، ولم يخطر على بالهم أن مثل هذه التصرفات قد تزعج النساء. فهم يعتبرون كلمات ( الغزل) ونظرات( الإعجاب) المتكررة وإن لم تلقَ صدى لدى المرأة أنها تعجبها، ولا يتصورون أن ذلك قد يزعجها، وقد يؤذي مشاعرها ولا يشعرها باحترام زملائها في العمل. وقد تتعدى الأقوال إلى ما هو أكثر من الغزل والإعجاب، وقد تتحول الأقوال إلى أفعال، وفي نفس هذه المؤسسة الأميركية لفتت إدارة الموارد البشرية نظر أشخاص كثر، منهم نساء ورجال عرب، إلى أن ما يلبسون لا يناسب موقع العمل.

في السنوات الأخيرة اضطرت إحدى المؤسسات الإعلامية التي عملت بها في المنطقة إلى إصدار قواعد لتنظيم العمل داخليا منها منع التحرش الجنسي وما يترتب عليه. وكانت المؤسسة مضطرة لفعل ذلك بعدما كثرت الوقائع التي اشتكت منها نساء بسبب محاولات مسؤولين أو مشرفين في العمل التحرش بهن بشكل من الأشكال. وما يشجعهم على الاستمرار هو عدم وجود عقوبات سواء في مكان العمل أو في الفضاء العام.

ورغم أنني لا أعرف كم يبلغ عدد المؤسسات التي تصدر داخليا مثل هذه القواعد، ولا أعرف كم عدد الدول العربية التي أصدرت قوانين تجرم التحرش وتحدد عقوبات على مرتكبيه، ولكنني أعرف أن حوادث التحرش لا حصر لها في أماكن العمل سواء أكانت في القطاع العام أم الخاص. وتشتكي خاصة النساء من ما يسميه البعض ( حركات) الشباب/ الرجال وخاصة ممن هم أعلى في المنصب الوظيفي. ويتردد كثير منهن في رفع شكوى إلى أقسام مثل الموارد البشرية، إما لأنه لا توجد قوانين أو ضوابط محددة بهذه الشأن، وإما لأن الفتيات أو النساء يخشين من اتهامهن شخصيا بالتسبب في إثارة مشاعر الشباب، ودفعهم إلى قول أو فعل ما يصنف على أنه تحرش.

والواقع أنني سمعت في مؤتمرات واجتماعات تناقش قضايا المرأة بعض الرجال يقولون: إنه لا حاجة إلى قوانين من هذا النوع، لأن عاداتنا وتقاليدنا وديننا الحنيف يمنع ذلك أصلا. وللأسف هي كلمة حق أريد بها باطل. صحيح أن عاداتنا وتقاليدنا وديننا كاها تحثنا على مكارم الأخلاق ولكن للأسف لا يبدو أن ذلك يشكل رادعا كافيا ليمنع الشباب من ممارسة التحرش والاستمرار فيه. وهناك بلدان تعاني من حوادث التحرش فما تكاد المرأة تخرج إلى الشارع حتى تتعرض لبضع وقائع تصنف تحرشا، وقد تستمر التحرشات، كما حدث بالفعل، حتى تصل المرأة مكان سكنها أو عملها أو دراستها، وإذا بُررت في بعض الأحيان، وإن كان ذلك لا يمكن تبريره، حوادث التحرش في الخارج بأن الذين يقومون بها هم أشخاص يأتون من مختلف الفئات الاجتماعية، وقد لا يتحلون بأخلاق فاضلة. فكيف يمكن تبرير التحرش في مكان العمل، إذ يفترض أن يكون الأشخاص في مستويات متقاربة ويعرفون بعضهم البعض؟

ربط التحرش بالدين أو العادات والتقاليد لا يكفي. وينبغي اعتباره مثل بقية الأفعال التي يعاقب عليها القانون مثل: السرقة والاحتيال والنصب، هي أفعال يرفضها المجتمع ويحرمها الدين، ورغم هذا هناك قوانين تجرمها وتحدد عقوبات صارمة تطبق على مرتكبيها في حال ثبات التهم عليهم.

مع زيادة وقائع التحرش في أماكن العمل في مجتمعاتنا علينا أن نضغط باتجاه إصدار قوانين إذا لم تصدر بعد، وأن نؤكد على جهات عملنا إصدار قواعدها الخاصة، وتحديد ضوابط لتنظيم العمل وعلاقات العاملين في المؤسسة الواحدة. على أن تكون هذه القوانين والضوابط حساسة تجاه الجندر ( النوع الاجتماعي)، وتحدد طرق ووسائل يتمكن بواسطتها المتضررون أو المتضررات من رفع الشكوى عبر قنوات تضمن السرية وتشجعهم على التحرر من خوفهم من تبعات التشهير أو الفضيحة من الاتهام بالتسبب في واقعة التحرش.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com