حرب المايونيز
حرب المايونيزحرب المايونيز

حرب المايونيز

وقف الرجل الثمانيني بكل مهابة وقدم شهادة الفوز إلى صاحب مقهى ومطعم في باريس وكأنه يسلمه الدكتوراه الفخرية. فالمسابقة لها شأنها في فرنسا لأنها تتعلق بواحد من أكثر مذاقات البلد شهرة. طبق البيض المسلوق المحلي بصلصة المايونيز. أما مانحة الجائزة فهي جمعية تأسست رسميا للحفاظ على سمعة هذا الطبق، برئاسة الناقد كلود ليبي الذي أمضى عمره في الكتابة ونشر المؤلفات عن المطبخ الفرنسي. لقد جمع حوله صحافيين من رفاقه الغيورين على تراث المائدة. وعمل هؤلاء الزملاء ينحصر في ارتياد المطاعم وإرشاد القراء إلى أفضل الموائد والسهر على سمعة هذا الفن الجميل من فنون العيش.



السمعة هي كل شيء. وصلصة المايونيز آنسة بنت أصول تتنافس على نسبها أكثر من دولة. وهناك مجلدات في وصف مقاديرها وطريقة عملها وأسلوب خفق البيض فيها، مع مهارة إضافة الزيت وعصير الليمون، بمنتهى التمهل والأناة. إن قطرة زائدة، أو قبل الأوان، كفيلة بإفساد الصلصة وتثبيط رغوتها المتسامية. وحسب المراجع المتوفرة، فإن أول استخدام رسمي لمفردة المايونيز ظهر عام 1806. وهي تسمية يمكن أن تكون آتية من جزيرة مايوركا في إسبانيا، وكانت محتلة من الإنجليز قبل أن يستحوذ عليها الماريشال الفرنسي ريشيليو في القرن الثامن عشر.

يقال إن طباخ الماريشال قدم له، ذات يوم، صلصة المايونيز. وقد استطابها فانتشرت وحازت شهرة. لكن هناك رواية ثانية تقول إن المفردة مشتقة من فعل «أكل» بالفرنسية، أو من فعل قديم بمعنى «خفق». ولا يقف الأمر عند هذا الحد لأن الروايات كثيرة والمتنازعين كثر. وخلاصة القول إن هذه الصلصة الثخينة ذات اللون الأصفر الشاحب تحولت إلى عنصر أساسي في الأطباق والمقبلات، ومنها طبق البيض المسلوق آنف الذكر. لقد كان طبقا فقيرا لا يظهر على موائد الأثرياء، لكن النقاد نفخوا فيه الروح حتى استعاد مكانته التراثية وأخذ موقعه في قوائم المطاعم الراقية.


عن هذه المطاعم يقول وزير عربي سابق: «تسمع بها خير من أن تراها». لقد جاء على رأس وفد من بلاده إلى باريس ودعاهم الجانب الفرنسي إلى واحد من تلك المطاعم الشهيرة. وعندما جاء الطبق الرئيس وجد فيه قرصا من اللحم بحجم ريال، وحلقتين من البطاطا والجزر، وورقة خس واحدة. تحت أي ضرس يضع الوزير ومرافقوه هذه العينات من الطعام؟ لقد تصوروا، للوهلة الأولى، أن المضيف يتقصد إهانتهم. وكادت تحدث أزمة دبلوماسية لولا أن المترجم تدخل وأقنع الوزير بأن الطبق الذي أمامه هو من أرفع ما تفتقت عنه مخيلة الطباخ الفرنسي، وأن ثمنه يساوي مائة طبق كرشة وألف طاسة عدس. هل جئنا لنأكل مخيلة ونشبع بها؟.


خرج الوفد من المطعم وطلب الوزير من المرافق أن يأخذهم ليتعشوا في مكان حقيقي. وقادهم إلى مطعم تركي للكباب فأبلوا بلاء حسنا وحمدوا الله على النعمة. إن الكمية هي أحد أسرار النجاح. وقد يكون هذا هو السبب في المنافسة على دخول موسوعة «غينيس» بفضل «أكبر صحن تبولة» و«أوسع طبق كبسة» و«أضخم قرص فلافل». وقد وصف المثل الشعبي الشخص الشره بأن «عينه أوسع من معدته».


وعودة إلى المايونيز فإن هناك اليوم، في فرنسا، من يشعر بالخزي لأن الآلة الحديثة دخلت إلى صناعة هذه الصلصة. وليت الأمر اقتصر على الخفاقة الكهربائية المنزلية، أو «ست البيت» التي تتصدر جهاز العروس وتغنيها عن الخفق اليدوي المتعب. لقد دخلت التوربينات الضخمة إلى المعامل وباتت تنتج أطنانا من الصلصة المعبأة في القناني البلاستيكية، مثل أشربة السعال أو عصارات العناية بالبشرة. وفي محاولة أخيرة للمقاومة والصمود في هذه الحرب الصناعية، تشكلت جمعيات كثيرة للدفاع عن هذا الطبق أو ذاك، وحلقات للتهكم على الجيران الهولنديين والألمان لأنهم يضيفون رشة من السكر لتحلية طعم الصلصة.


ولنشر تراث المايونيز بين أبناء الجيل الجديد، أطلق أحد الطباخين ثلاث وصفات لتحضيره، بالبيض الكامل، وببياض البيض فحسب، أو بصفاره. أما البيض المسلوق المرافق للصلصة، فإن رئيس جمعية الدفاع عنها يوصي بأن يرفع قدر الماء المغلي عن النار قبل 30 ثانية من اكتمال السلق، ويقول إن البيضة الرخوة ألذ من الجامدة. والقول ما قال المسيو ليبي.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com