الخيام الرمضانية.. نكهة مصرية من عبق الأزهر
الخيام الرمضانية.. نكهة مصرية من عبق الأزهرالخيام الرمضانية.. نكهة مصرية من عبق الأزهر

الخيام الرمضانية.. نكهة مصرية من عبق الأزهر

بدت فكرتها صغيرة في ذهن التصوف ومن ثم اتسع مداها فوسعت ساحات الثقافة والفكر، هي الخيمات الرمضانية، وتعتبر ملمحاً رمضانياً وسعت برحابته تجمعات فنية على امتداد شهر رمضان وتلقاك في كل حي، حتى غدت ظاهرة عُرفت كمصطلح مصري النشأة، وواحدة من ملامح رمضان من كل عام، فهو مصطلح يُطلق على التجمعات الفنية والثقافية التي تحيي لياليه، ويُعد المصريون هذه الخيمات نمطاً اجتماعياً جديداً أفرزته الحياة المدنية التي تشجع في زاوية منها نوع الاحتفال بمقدمه الكريم، وكثير ما تشهد الخيام الرمضانية صالونات أدبية وفنية ودينية وذلك من منظور الجهة المنظمة والقائمة على أمرها، وقد خرجت الفكرة في بدايتها من جماعات الطرق الصوفية التي أحيت الخيام الرمضانية حيث كانت تعبق بالإنشاد الديني وحلقات الذكر ودروس العلم.

ومن خيام في العراء سرت الفكرة إلى النوادي والفنادق حتى الفاخر منها حيث تم اقتباس الفكرة لتتحوّل تلك الخيام الرمضانية فتستحيل على يدها ليالٍ فنية وغنائية يحييها فنانون وأدباء طيلة الشهر الكريم وسط أجواء ترفيهية تشجي التجمعات العائلية والشبابية وتستمر طيلة الليل حتى مطلع الفجر وعلى أثر النغم يتناولون وجبات السحور بشكل جماعي.

ولم تقف الفكرة عند هذا الحد بل تطورت الخيمة الرمضانية لتصبح ظاهرة اجتماعية ممتعة حيث تلتقي العائلات للسهر في الجو الرمضاني مع فاصل بسيط من الترفيه بدعوة بعض المطربين لغناء تواشيح دينية أو أغانٍ من التراث، كما أن هذه الخيام أصبحت متنفساً للشباب في ليل رمضان.

وشهدت القاهرة عبر كل العصور مظاهر متجددة للاحتفال بقدوم شهر رمضان، وذلك منذ تأسيسها في عام (358هـ /999م )، في عهد المعز لدين الله الفاطمي، وقائده جوهر الصقلي، حيث عرفت العاصمة الإسلامية (الرابعة) لمصر - بعد الفسطاط والعسكر والقطائع - أسواقاً مخصصة للبضائع والحرف المختلفة، والتي لا يزال بعضها يمارس وظائفه حتى الآن.

ومن بين تلك الأسواق سوق الخيامية الذي تصنع به الخيام المزينة بالنقوش والرسومات ذات الطابع الإسلامي، وتجد رواجاً ليس له مثيل في أيام وليالي شهر رمضان، وكان استخدام الخيمة قاصراً على الاحتفالات الدينية ومراسم العزاء في الأحياء الشعبية، ولكن السنوات الأخيرة أفرزت استخدامات أخرى، وانتقلت الخيمة إلى الأحياء الراقية والفنادق ذات الخمسة نجوم.

وإذا كان لشهر رمضان عبق خاص في رحاب الأحياء التاريخية، ذات الماضي البعيد مثل الأزهر والحسين والسيدة زينب والفسطاط، حيث تتعانق الروائح الزكية مع فيوضات وروحانيات الشهر الفضيل، فإن الكثير من سكان القاهرة يحرصون على التردد طوال أيام وليالي رمضان على تلك الأماكن، ليقضوا بها ساعات ممتدة مع هذا العبير الذي يتجدد كل عام، ويذكر التاريخ أن الخيمة الرمضانية استخدمت كإطار من القماش لإقامة الاحتفالات الدينية في العصر الفاطمي، طوال ليالي شهر رمضان، وبعد أن يفرغ الناس من صلاة العشاء والتراويح، وكانوا يجتمعون بها للاستماع إلى التواشيح الدينية والأذكار، وفي فترات الراحة توزع عليهم أكواب المشروبات الساخنة كالقرفة والينسون والحلبة، حيث يمتد السهر إلى وقت السحور بجوار الجامع الأزهر.. ومنذ ذلك العهد صارت (الخيمة) من التقاليد الرمضانية، التي تتكرر كل عام، ولا زالت الخيمة أو السرادقات الدينية تقام طوال ليالي رمضان بجوار الجامع الأزهر، ليلتقي الآلاف بكبار العلماء والمشايخ، ويستمعون إلى أحاديثهم الدينية، ويجيبون على كافة الاستفسارات والتساؤلات حول شئون الدنيا والدين.

وقديماً كان تعلق في سقف الخيمة مجموعة من القناديل، أما الآن فتعلق المصابيح الكهربية بشكل باهر، وتوضع منصة ومقاعد للمتحدثين، بينما تصطف المقاعد للجمهور، ومهما كانت المساحة التي تنصب عليها الخيمة، فإن الحضور يستطيع بيسر وسهولة أن يتبيّن صوت المتحدث، من خلال الميكروفونات والسماعات التي تنقل إليهم الصوت، وذلك على عكس ما كان يحدث في الماضي من ضرورة أن يرفع المتحدث صوته حتى يصل إلى آذان الحضور.

طابع شرقي

وبعد أن تأصلت تلك الظاهرة في الأحياء الشعبية، وحققت جذباً جماهيرياً لمتابعة الاحتفالات بقدوم شهر رمضان، خرجت (الخيمة) بطابعها الشعبي الأصيل، إلى الأحياء الراقية، كمحاولة لنقل هذا الزخم بين الجدران الأسمنتية والعمائر الحديثة التي تخلو معظمها من هذا الحس الجمالي الخالد في الآثار القديمة، وبدلاً من أن ينتقل سكان تلك الأحياء إلى جوار الأزهر والحسين، حاولوا أن يغيروا الجغرافيا، فهل نجحوا في ذلك ؟!.

ورغم حداثة التجربة واقتصارها على فئات بعينها، فإنها خففت هذا الضغط الشديد والتزاحم على الخيام الرمضانية، في المناطق الشعبية، إذ حاولت الخيمة المستحدثة أن توفر جميع العناصر والخصائص التي تميزت بها الخيمة القديمة، وبدلاً من أن تمارس دورها في إذكاء الوعي الديني، تحوّلت لتشبه المقهى، حيث تقدم المشروبات الساخنة والنرجيلة، وتصطف المقاعد والمناضد الخشبية تقليداً ومحاكاة بالمقاهي الشعبية الشهيرة كمقهى الفيشاوي في حي الحسين، وصارت الخيمة الرمضانية في الفنادق، مصدراً لجذب العديد من النزلاء وسكان الأحياء الراقية والسياح أيضاً، حيث تصل أسعار الفرد الواحد إلى ما يزيد على خمسين جنيهاً، بالنسبة للمصريين، أما الأجانب فتزيد إلى مائة وخمسين جنيه بالنسبة للفرد الواحد.

وتخصص الخيمة ضمن برنامجها تقديم بعض الفقرات الفنية لكبار المطربين والمطربات، بالإضافة إلى وجبتي الإفطار والسحور، وهي عادة ما تواجه بانتقادات نظراً لخروجها عن الطابع الرمضاني الأصيل، ويسعى القائمون على أمر هذه الخيام إلى اجتذاب الشباب لقضاء السهرات على أنغام الفرق الموسيقية الحديثة، حيث تستقبل بعضها ما يقرب من ستمائة شخص يومياً، وتنظم العديد من الحفلات للفنانين المصريين والعرب.

مسابقات طريفة

أما النوادي فقد ابتكرت أيضاً وسائلها لجذب أكبر عدد من الجمهور، وذلك بإقامة (الخيمة) الرمضانية، والتي يقدم من خلالها الإفطار والسحور، والعديد من المسابقات والألعاب الطريفة.

ولم تقتصر الخيمة الرمضانية على البر فقط، بل انتقلت إلى ظهر البواخر النيلية، حيث تصنع من مواد شفافة غير قابلة للاحتراق، ويتاح من خلالها مشاهدة النيل والأضواء المتلألئة على ضفتيه، حيث تسير الباخرة في جولتها وعلى سطحها الركاب يتناولون طعام الإفطار، أو السحور في نزهة نيلية بديعة، وما بين الوقت تقدم الفقرات النيلية، ويحتسي الركاب المشروبات الساخنة ويدخنون النرجيلة.

أما المراكز التجارية المنتشرة في ربوع القاهرة، فقد أخذت فكرة (الخيمة)، وعملت على تنفيذها خلال ليالي رمضان، بصورة أكبر لتتسع لما يزيد على ألف شخص يجلسون إلى الموائد المتجاورة، ويتناولون طعام الإفطار والسحور، وسط جو معبق بلمسات التراث الإسلامي من زخارف ونقوش، وديكورات جهزت خصيصاً كي تعطي للروّاد هذا الإحساس المفعم بالفرح وفيوضات الشهر الفضيل وروحانياته.

وقد حملت تلك (الخيام) أسماء ذات ملامح رمضانية، مثل خيمة الفوانيس والكنافة والقطايف، وفتافيت السكر، وعادة ما تقدم وجبات الإفطار والسحور بنظام (البوفيه المفتوح)، حيث تمتد منضدة طويلة عليها شتى الأصناف من المأكولات والحلويات، ويقف إليها عدد من الجرسونات لمناولة الزبائن ما يطلبونه في أطباق، ليجلس هؤلاء ومعهم أطباقهم جنباً إلى جنب، ويبدأون في تناول الطعام، ومن الأشياء الطريفة أن يتم إلحاق مقهى بلدي بالخيمة، حيث ترص المقاعد الخشبية، ويرتدي (الجرسون) الزي الشعبي لعامل المقهى، لكي يخدم الزبائن، وبذلك يضفي المقهى هذا الطابع الشعبي، من خلال ديكوراته التي تتشابه في تصميمها مع المقهى الشعبي المعروف داخل الأحياء الشعبية.. ويبقى أن الخيمة الرمضانية في قلب القاهرة القديمة، لها طابعها المتميز والأصيل، ودورها في إذكاء الروح الدينية، وسط الأجواء العامرة بروحانيات الشهر الفضيل.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com