ألبرتو مانغويل مع بورخيس‎
ألبرتو مانغويل مع بورخيس‎ألبرتو مانغويل مع بورخيس‎

ألبرتو مانغويل مع بورخيس‎

وئام غداس

في بوينس آيرس سنة 1964، يقترب كاتب أعمى من موظف مكتبة عمره ستة عشرة عاماً ويسأله إن كان يهمه العمل بدوام جزئي كقارئ بصوت مرتفع، كان الكاتب هو خورخي لويس بورخيس، أما عامل المكتبة الشاب هو ألبرتو مانغويل، الذي يوافق على عرض الكاتب الكبير دون أن يعي وقتها أي حظ ساق بورخيس إليه هو دونا عن غيره، ليقلب حياته رأسا على عقب وأي عالم سحريّ باذخ الثراء حظي بالعيش فيه طيلة أربع سنوات، في إكتشاف الكتب والكتّاب وخوض عالم الكتاب من أوسع أبوابه، هذا الباب الذي تمثل في مرافقة كاتب كبير لوقت طويل كل يوم، بورخيس (1899-1986)، أحد رموز الأدب في أميركا اللاتينية وواحد من أهم أسمائها على الإطلاق، والذي اشتهر عالميا بنظرياته المتفردة والعميقة عن الأدب والكتابة والقراءة، وتحاليله التي شكلت مادة مغرية للإطلاع والتفسير.

بعد كل تلك السنين يقف مانغويل أمام حقيقة أن تجربته مع بورخيس هي ما شكلت طريقه فيما بعد، وأن الكاتب الأعمى كان أول من علّمه فنون الكتابة وجعله يكتشف أسرارها بدقة لا متناهية، حتما لم تكن تلك غاية بورخيس، صناعة كاتب، أو حمل فانوس لإضاءة درب أحد، لقد طلب قارئاً بسبب عاهته، لكن عما سيسفر الإحتكاك بشخصية كبورخيس؟ بنسبة وافرة ليس سوى على كاتب يحمل من الوعي بتقنيات الأدب ما يكفل أن يكون ذا وزن وقيمة وباع، وهذا ما كان، هكذا أنتجت التجربة واحدا من أعلام الثقافة المعاصرين، ألبرتو مانغويل(1948)، الكاتب الذي يوصف بأنه الرجل المكتبة، ومؤلف الكتب القيّمة التي تتناول المكتبة والقراءة، من أهمها كتاب "تاريخ القراءة"،و"الأوديسا والإلياذة هوميروس" الكتاب الذي هز العالم، مانغويل عاشق الكتاب المستميت في محاربة عالم الإستهلاك، الذي ما فتأ ينعى انصراف الإنسان الجديد عن القراءة، وتحوله عن ضرورة الكتاب في حياته.

عام 2004 صدر لمانغويل كتاب "مع بورخيس"، الذي صدرت مؤخرا نسخته العربية عن دار الساقي(2015)، في ترجمة ممتازة للكاتب أحمد.م.أحمد، في هذا الكتاب يدخل القارئ عوالم بورخيس السحرية، المثيرة للفضول، ويخوض عمليا رحلة استكشاف لحياته بتفاصيلها، حياته الخارجية بيته، أركانه، أثاثه، مكتبته، غرفته الخاصة، أصدقاؤه، أفراد بيته... وحياته الداخلية غموضه، سحره، قوة حدسه، قوة إحساسه بالأشياء حوله، بالجمال والألوان رغم العمى والشِّعر حيث تنهمر دموعه غالبا بسببه، حساسيته العالية تجاه موسيقى معينة دون غيرها، وفي المقابل ماكر ولاذع حد الإستخفاف بتجارب كتابية أخرى، فمانغويل يكشف فجأة ما كان رأي بورخيس ببعض الكتاب على غرار موباسان، بروست، ماركيز ولوركا، كل هذه الأسماء وأسماء أخرى ممن أسهموا في تشكيل الثقافة العالمية كانت مثار سخرية بورخيس وازدراءه، بورخيس الذي بإمكانه طرد كاتب التمس منه رأيه و مشورته في أحد أعماله وجاء يعرضه عليه، يصف مانغويل بعض الحوادث الغريبة والتي يكون فيها بورخيس في قمة عنجهيته وتضخم أناه ما يجعل القارئ في مواضع عدة يراجع صورة الرجل بذهنه، إلى حدود الصدمة أحيانا، بورخيس الذي اشتهر بتخيله الفردوس مكتبة كبيرة، واعتبر الكون مكتبة لم يمتلك في الواقع سوى مكتبة ضئيلة جدا، وأنه بحسب مانغويل لم يلزم نفسه بقراءة كتاب حتى النهاية.

لا أعلم كم يمكن إعتبار هذا الكتاب سيرة ذاتية لمانغويل فرغم أنه كان يعرض تجربة شخصية إلا أنه كان يقف بعيدا مثل متفرج، تاركا لليوميات حرية الإنسياب داخل الكتابة من دون أن يقحم وجوده فيها، يستعيد الزمن بأمانة وما يشبه الحنين، ويعرض لوحة حميمة لحقبة من الزمن جمعته ببورخيس وصنعت حياته، مانغويل لا يضع كتابا بين أيدينا بل مفتاحا لإحدى غرف الأدب السرية، غرفة بورخيس العظيمة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com