بوكوفسكي ورواية التمزّق بين حياتين
بوكوفسكي ورواية التمزّق بين حياتينبوكوفسكي ورواية التمزّق بين حياتين

بوكوفسكي ورواية التمزّق بين حياتين

وئام غداس

كان الصباح على نحو العادة وكنت ما أزال على قيد الحياة.

لعلّي أكتب رواية، قلت في نفسي.

وهذا ما فعلت.

قال هذا وبدأ في كتابة أول رواية في حياته، بعدما تحرّر من عمله الروتيني في مكتب البريد، كتب أولى رواياته خلال 21 يوماً فقط، بسبب توجسه من غياب الأمان بغياب الوظيفة القارّة، لكنها وظيفة ثابتة وفي المقابل كثير من التعاسة، تعاسة الوقت والجهد المهدورين في فعل أشياء غبية، لا علاقة بينها وبين ما تتوق نفسه حقا أن تفعله.

ولد تشارلز بوكوفسكي في أندرناخ/ ألمانيا عام 1920 وتوفي عام 1994، لأمّ ألمانية وأب ألماني- أمريكي، وعاش طفولة تعيسة، الطفل الوحيد نشأ وسط عائلة فاشية شديدة الصرامة، وفي مناسبات كثيرة تحدث بوكوفسكي عن الضرب المبرح الذي كان يتلقاه من أبويه في طفولته، وعندما بلغ سنّ المراهقة لم يتحرّر من حزنه ووحدته فقد باغته حَبّ الشباب وغطّت البثور المقرفة كل وجهه بشكل فظيع، تربّي خجلاً من شكله وترك المدرسة بسبب ذلك، تعمّقت وحدته وانسحب من كل الحياة العامة تقوقع على نفسه وعاش داخلها لا يجرؤ على الخروج، لكن ذلك لم يمنعه أن يطلّ على العالم عبر نافذة الكتابة.

في العالم العربي كانت علاقتنا به تنتهي عند بوكوفسكي الشاعر، حيث قُدّمت بعض قصائده من خلال ترجمات فردية هنا وهناك ويمكن القول أنه ما من محاولة جدية لترجمة أعمال هذا الكاتب الذي تميز بكتاباته غير النمطية، وبعالمه الموغل في حقيقيته، ليس هذا فقط بوكوفسكي هو كاتب البذاءة، الجنس، الفقر، القهر، الخمر،  لتهميش، العاهرات وشوارع العالم الخلفيّة التي كان من الصعب جدا أن يعترف بوجودها الأدب، وإن كان فليس إلى الحدّ الذي يجعلها مادّة دسمة ورئيسية، حاضرة ضمن كتب روايات أو دواوين، بسبب ذلك كان بوكوفسكي وبقي "بطل الهامش بجدارة وكاتب من كتّاب الأندرغراوند الذي لم يكن يوماً ابن المؤسسة" هكذا وصفت المترجمة الفلسطينية ريم غنايم بوكوفسكي ضمن مقدمة ترجمتها لرواية مكتب البريد الصادرة مؤخّراً عن دار الجمل.

تندرج هذه الرواية ضمن أدب السيرة الذاتية، ومع أن بوكوفسكي أكد في مقدمتها أنها من وحي الخيال إلا أنها لا تعدو نقلاً أميناً لحقبة من حياته، سأعود لأعدّل لفظ أمين فكل رواياته تقريباً كان فيها الشيء الكثير من السيرة الذاتية لكنّه مطعّم بشيء من الخيال والعناصر الفنيّة التي تتطلبها الكتابة، رغم أن بوكوفسكي واحد ممن لا يجدون ضرورة في زخرفة اللغة.

يتطرق بوكوفسكي في رواية مكتب البريد إلى معضلة عامّة ألاوهي تخبّط الإنسان بين حياتين، حياة خارجية وحياة داخلية، سيحضرك فوراً العدد الهائل من الكتّاب الذين تركوا وظائفهم مقابل التفرّغ للأدب، وكثيراً ما تكون المقايضة غير متساوية، والمعادلة غير صحيحة ، قد يترك شخص وظيفة ودخلاً مرموقين ويجازف بالتفرغ لشيء آخر فقط لأنه يُحبّه، قد يدرك لاحقاً أنه ترك الإستقرار من أجل التشرّد، لكنه لا يندم.

يكشف بوكوفسكي تاريخ علاقاته في مكاتب البريد، بكل خفاياه وأسراره وثغراته وسوءاته، يتطرّق لأزمة العنصرية في أميركا، ويميط اللثام عن فئات عديدة من مجتمعه، العاهرات والعجائز والنساء الوحيدات، حبّه للخمروالتقاعس والكسل، وولعه بالمقامرة في سباقات الخيول، حياته العاطفية الفاشلة والعابرة ليجد نفسه في النهاية مثلما كان دوماً إنساناً وحيداً.

أسلوب رشيق، لغة سهلة ممتعة، ستجعلك سعيدا وحزيناً، ساخطاً وآملاً، رواية صادمة لكنّها خفيفة، خفّة وإستخفاف كاتبها بالحياة بأسرها، بوكوفسكي الذي شتم الجمهور فصفّق له وأحبّه.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com