عبدالهادي الجزار.. فنان من العيار الثقيل أغضب الملك فاروق بلوحة جريئة‎
عبدالهادي الجزار.. فنان من العيار الثقيل أغضب الملك فاروق بلوحة جريئة‎عبدالهادي الجزار.. فنان من العيار الثقيل أغضب الملك فاروق بلوحة جريئة‎

عبدالهادي الجزار.. فنان من العيار الثقيل أغضب الملك فاروق بلوحة جريئة‎

كانت حياة الفنان التشكيلي الكبير عبدالهادي الجزار، مليئة بالإنجازات الإبداعية، بين رسم وشعر وتصوير وعزف على العود، كما كان كاتبًا للقصة القصيرة والمقال والمحاضرات، وقارئاً للقرآن، وله بعض التسجيلات بصوته.

وعاش الجزار -الذي ولد عام 1925 ونشأ في الإسكندرية- كومضة إبداعية شديدة التوهج سرعان ما تلاشت من عالمنا، حيث توفي عام 1966، وهو في الـ 41. ورغم سنوات عمره القصيرة، إلى أنه استعاد فترة خصبة من تاريخ الفن التشكيلي العربي، يمثل فيه هذا الفنان إحدى درره النفيسة والنادرة.

وأصدرت الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة، قرارًا بإعادة طبع كتاب قديم، يرجع تأليفه لعام 2001، يحتوي  دراسة قيمة للدكتورة عديلة عصمت، عن الفنان الفذ عبدالهادي الجزار، تتناول مسيرته باعتباره من الفنانين التشكيليين العرب، الذين تخلوا عن التأثر بالمدارس الفنية الغربية، التي وقع في أغوائها كثير من جيل الرواد من الفنانين العرب، تحت عنوان أكاديمي: "استخدام الرمز الشعبي عند الفنان عبدالهادي الجزار ودلالاته في التراث الشعبي المصري ـ دراسة تحليلية".

ربما أدرك الفنان التشكيلي الكبير، أن عمره لن يمهله لكي يرسم ويقرض الشعر ويتلو القرآن في سنوات من التأمل والراحة، فبدأ وهو في سن الـ16، يحلم بدراسة الطب والتي هجرها فيما بعد، ليلتحق بمدرسة الفنون الجميلة، والتي تخرج فيها في بداية الخمسينيات، ليحصل بعدها على درجة الأستاذية في فن التصوير من أكاديمية الفنون الجميلة في روما، فيرسم لوحته الأولى في هذه السن المبكرة، عن أهمية الاعتناء بالصحة والنظافة لدى عموم الشعب، والتوعية بها، وتلك اللوحة أهلته للحصول على الدراسة المجانية في كلية الطب.

وترى الدكتورة عديلة، في دراستها القيمة عن عبدالهادي الجزار، أنه تأثر بشكل كبير بالمدارس الفنية الغربية كالرمزية والسريالية، لكنه وظّفها ببراعة في التعبير عن الفقراء والمطحونين، لتشكّل لوحته الثانية والتي رسمها عام 1948 "الكورس الشعبي"، ثورة لونية وبصرية في مواجهة الظلم والفساد، والتي بسببها يسجل التاريخ المرة الأولى التي يعتقل فيها فنان تشكيلي في مصر، بسبب لوحة.

وأمر الملك فاروق آنذاك، أن يتم مصادرة اللوحة، واعتقال كل من الجزار، وأستاذه الفنان التشكيلي المناضل حسين أحمد أمين، منظم المعرض الذي عرضت فيه اللوحة، ليتدخل الفنانان الكبيران محمد ناجي ومحمود سعيد -اللذان تربطهما علاقة مصاهرة بالملك فاروق، وكانا من أشهر فناني عصرهما- للإفراج عنهما، بعد أخذ تعهد على الجزار، بعدم تكرار فِعلته، لتختفي فيما بعد وبطريقة غامضة اللوحة الأصلية، ولم يعرف مصيرها حتى الآن.

لكن الجزار أعاد رسمها سنة 1951، لتكون إحدى مقتنيات متحف الفن المصري الحديث، بعد عام 1952، واللوحة تضم مجموعة رجال ونساء وأطفال يقفون حفاة صفًا واحدًا، ويرتدون ملابس بالية، وإحدى النساء مُنقَّبة، وأخرى عارية، والثالثة شعرها أشعث، والرجال بملابس نسائية، دلالة على هوانهم، وأمامهم جميعًا أطباق فارغة، ينتظرون طعامًا لا يأتي، وعلى وجوههم بؤس وحيرة، في مشهد إجمالي يعكس واقع أغلبية المصريين آنذاك، وفساد الحكم في تلك الفترة التاريخية.

وتعد أشهر لوحات الفنان التشكيلي الموهوب، كالمجنون الأخضر، وفرح زليخة والمجاذيب وقارئ البخت، إنصافًا فنيًا حقيقيًا لهؤلاء البسطاء والمهمشين وإعلاء لطموحاتهم وأحلامهم المتطلعة لحياة كريمة أقرب إلى الستر، حيث اختزل الجزار، ذكريات طفولته بحي القباري الشعبي في الإسكندرية، بالقرب من الميناء، وتفتّح وعيه على العمال والشيالين في غدوهم ورواحهم على هامش الحياة، وفي حي السيدة زينب بعد انتقاله إلى القاهرة، لينظر ومن خلال اللون والريشة لهؤلاء المكدودين في طلب الرزق، فامتلأت لوحاته بأفراحهم القليلة، ورموزهم التي يتطيرون بها من السحر والحسد، بل الاحتفاء بالمجاذيب وأهل الطريق في الأحياء الشعبية المزدحمة بالبشر، والأحلام المستحيلة.

وعلى الرغم من أن الفنان التشكيلي الرائد "راغب عياد"، كان أول من وجه الأنظار إلى جماليات الفنون الشعبية، كما كان سبّاقًا في التعبير عن شتى مظاهر حياة المصريين البسطاء، مع نظيره محمد ناجي، الذي أكد على أهمية الاتصال بالتراث الفني المصري، إلا أن أعمال الفنان الكبير عبدالهادي الجزار، ولوحاته، تظل هي الأقرب لعالم الروحانيات والطقوس الشعبية في مخيلتها اللاواعية بالدين والمعتقدات والتاريخ، لدرجة جعلت الفنان التشكيلي الكبير محمود سعيد، وهو في قمه إبداعه يقتني منه لوحة "أدهم" عام 1951.

وأخيرًا، وعلى الرغم من مرور ما يقرب من 50 عامًا على وفاة عبدالهادي الجزار، إلا أن لوحاته وأعماله التي أنجزها في عمره القصير، مازالت محل اهتمام ودراسات عدد لا يستهان به من رسائل الماجستير والدكتوراه في كليات الفنون الجميلة في مصر والعالم العربي، وعدد من الدول الأجنبية تأتي في مقدمتها إيطاليا، ولعلنا نتذكر الإعجاب الشديد بلوحات الجزار، الذي أبداه المفكر الوجودي الفرنسي الشهير جان بول سارتر، أثناء زيارته الشهيرة لمصر، مع سيمون دي بوفوار عام 1967.

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com