الروائي الجزائري "سعيد خطيبي" ينبش قبر "الرومية"
الروائي الجزائري "سعيد خطيبي" ينبش قبر "الرومية"الروائي الجزائري "سعيد خطيبي" ينبش قبر "الرومية"

الروائي الجزائري "سعيد خطيبي" ينبش قبر "الرومية"

حياتها قصيرة لاتتعدى 27 عاماً، قطعت خلالها آلاف الأميال، وذهبت من أقصى شمال القارة الأوروبية "برودة" إلى أبعد نقطة في الجنوب الجزائري "حرارة"، تحيطها الصحراء القاحلة وصمت الريح، تنكرت في زي بدوي عربي، وأطلقت على نفسها اسم "محمود السعدي"، بغية إخفاء هويتها، وعدم إثارة فضول أهل الصحراء، وعرفت الطرق الصوفية في الإسلام، وعاشت حياتها القصيرة كشهاب خاطف، تبحث عن معنى للحياة والحرية، وأيضاً عن أبيها الذي لم تعرفه قط.

إنها الرحالة والصحفية والكاتبة السويسرية "إيزابيلا ايبرهاردت"، المولودة عام 1877 بجنيف في سويسرا، والمدفونة بمقبرة ''سيدي بوجمعة'' الوالي الصالح لمدينة "عين الصفراء"، والواقعة على ضفة الوادي المتاخم للحدود الجزائرية المغربية، إذ كتب على شاهد قبرها باللغتين العربية والفرنسية: ''السيد محمود وإيزابيل ايبرهاردت"، زوجة سليمان اهني، المتوفاة عن عمر يناهز 27 سنة، حيث لقيت حتفها إثر الفيضان الذي اجتاح عين الصفراء شهر أكتوبر عام 1904، إذ منعتها إصابتها بحمى الملاريا آنذاك من الفرار، لتنتقل إلى الرفيق الأعلى، بمعية 5 أفراد من الأهالي، و6 أوروبيين آخرين، ويتم دفنها وفق التقاليد الإسلامية.

من بين ما لا يقل عن 12 كتابا بيوغرافياً عن "إيزابيلا ايبرهاردت" من جانب الكتاب والمؤرخين الأوروبيين تناولت حياتها وسيرتها الغامضة وعلاقتها المربكة بالوطنيين الجزائريين، وفي الوقت ذاته بالجنرال "لوتاي" المكلف من طرف الإدارة الفرنسية، بإعادة الأمن إلى الحدود الجزائرية المغربية، إلى جانب علاقتها بالقائدين العسكريين الفرنسيين "ليتورد وكوفييه"، يجيء العمل الروائي الثاني للكاتب الجزائري "سعيد خطيبي"، والذي صدر حديثاً عن دار "ضفاف" بعنوان "أربعون عاماً في انتظار إيزابيلا"، في محاولة منصفة لقراءة التاريخ الوطني الجزائري، وعدم الحكم المطلق على كل الأطراف بالإدانة القاسية أو البراءة الساذجة، أو حسبما قدم الروائي قضيته: "في هذا العمل، حاولت هدم تلك الميثيولوجيا التي تتوهّم أن الجزائري أعلى شأناً من غيره، بات علينا أن نعيد مساءلة الماضي، وأن نتخلّى عن الأساطير التي زرعتها الدولة الوطنية في عقولنا”.

ينبش الروائي الجزائري "سعيد خطيبي" في قبر الرومية، كما يسميها بدو وأهالي مدينة "عين الصفرا" في محاولة سردية لاقتفاء أثرها، وقراءة متأنية لمذكراتها ويومياتها التي دونتها، من خلال فرضية متخيلة مفادها عثور الفنان الفرنسي "جوزيف رينشار" بطل الرواية والمقيم في الجزائر منذ سنوات بعيدة، وتربطه صداقة قوية بأحد الوطنيين الجزائريين يدعى "سليمان"، على مخطوط لها، في بيت موظّف سابق في "دار البلدية" في مدينة بوسعادة، جنوبي الجزائر، حيث أقامت على فترات متقطّعة، وبعد مرور أكثر من أربعين عاماً على رحيلها التراجيدي.

قراءة مخطوطة "إيزابيلا" تستدعي ذكر شخصيات حقيقية، عاشت في الجزائر في تلك الحقبة الزمنية، أواخر القرن التاسع عشر، فهناك الكاتب والرسّام الفرنسي "إيتيان ديني" (1861 – 1929)، الذي عاش في بوسعادة أيضاً، حيث اعتنق الإسلام، وصار اسمه "نصر الدين دينيه"، إلى جانب الرسّام "مكسيم نواري"، عشيق إيبرهارت، الذي أهدته أحد نصوصها، وأيضاً أحد أحفاد الأمير عبدالقادر، الذي خدم في الجيش الفرنسي الاستعماري ثم مات في دمشق، كما نجد شخصية امرأة لا يذكرها التاريخ، كانت ترأس مشيخة طريقة صوفية في الجزائر، نهاية القرن التاسع عشر.

يسقط الروائي الجزائري "سعيد خطيبي" بلغة روائية مبهرة، حيرة جيله الذي عاصر سنوات العشرية السوداء في وطنه الجزائر فترة التسعينيات من القرن الماضي، والتي تجسد فيها فشل بناء دولة وطنية، وخيبات الشعب الجزائري بعد كفاحه وثورته المجيدة، وانحراف مسارها، فيبدأ روايته بعام 1952 زمن الإرهاصات وأحلام الحرية والاستقلال، من خلال صوت الراوي الفنان الفرنسي "جوزيف" الرجل الأوروبي الذي يعيش في بلدٍ أحبه، وتخلى من أجله عن بلده الأصلي، إلا أنه ومن خلال التحولات السياسية والاجتماعية التي يشهدها المجتمع الجزائري، يتعرّض "جوزيف" إلى ضغط من طرف جماعات متشدّدة، فيعيش إحساس الخوف والتشكيك، من جانب الجزائريين، الذين يؤيدون حزب العدالة بالآلاف في معركته البرلمانية، والتي في حالة فوزه بهذه الانتخابات، سيقوم بتنفيذ وعده الانتخابي للأهالي، بتأميم ممتلكات الأجانب، وإعادة توزيعها عليهم بالعدل.

يقول "جوزيف" في إحدى أهم جمل الرواية وأعمقها: "هم - طبعاً - لن يستثنوا بيتي من قائمة التأميمات ولن يولوا اهتماماً للأربعين عاماً التي قضيتها بينهم، قريباً، سأجد نفسي في العراء، مضطراً للعودة من حيث جئت".

هنا ينتصر الروائي الجزائري "سعيد خطيبي" للآخر الفرنسي، الذي أحب الوطن الجزائر بعيداً عن تخوينه مقدماً شهادة براءة لبطله الفنان الفرنسي "جوزيف"، الذي هجر فرنسا ليسكن الجزائر طوال أربعين عاماً، تلك البراءة التي تنسحب بالضرورة على الرحالة والكاتبة السويسرية "إيزابيل ايبرهاردت" والتي ترسخ عنها فرضيتي ''السكيرة'' و''العميلة" لصالح المخابرات الاستعمارية''، وفقًا لشهادات النسوة العجائز، اللاتي عاصرن "إيزابيلا" في مدينة "عين الصفرا" حيث المخيلة الشعبية، لا تزال تصر على تداول الجانب ''السلبي'' من حياة "إيبرهارت"، بالرغم من دفاعها عن المسلمين ومواظبتها على نشر قيم التسامح، التي تلقتها على يد الشيخ الهاشمي.

يكتب الروائي الجزائري "سعيد خطيبي" في أحد مقاطع الرواية: "لم يجد خصومها من شيء للطعن في شخصها سوى اتهامها بالعمالة، كانت بعض النسوة الغيورات منها يوشوشن في آذان رجالهن بأنها جاسوسة، لكنهن لم يسألن أنفسهن عن ماذا يمكن لها أن تتجسس في صحراء يتسع فيها الرمل والخلاء والصمت والبؤس والقنوط! هل كانت تتجسس على ركود الحياة الصحراوية؟".

يذكر أنّ الروائي الجزائري "سعيد خطيبي" كاتب جزائري من مواليد 1984، يعمل في الصحافة، وحصل على جائزة الصحافة العربية عام 2012، وعلى جائزة "ابن بطوطة لأدب الرحلة" عام 2015 عن كتابه "جنائن الشرق الملتهبة". وصدرت له عدة كتب، من بينها: "أعراس النار" وهو أول كتاب توثيقي عن موسيقا الراي، وكتاب "بهجة الأعراف"، كما صدرت له روايتان: "كتاب الخطايا"، و"أربعون عاماً في انتظار إيزابيلا".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com